أخبار ثورة

‏إظهار الرسائل ذات التسميات قصص. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات قصص. إظهار كافة الرسائل

الأربعاء، 18 نوفمبر 2020

نوفمبر 18, 2020

قصة فتى بارع يدعى روبن هود كان يحيا في منتصف غابة شيروود بانكلترا

 


لقد كان للقرن الثالث عشر ميلادي ميزة خاصة في انجلترا..حيث شهدت فيه سلسلة من الاضطرابات والثورات..كان أشدها حربا أهلية عرفت بحرب البارونات (حرب البارونات الأولى هي حرب أهلية إنجليزية دارت بين عامي 1215-1217، بين مجموعة من البارونات المتمردين على الملكية بقيادة روبرت فيتزووالتر بدعم من الجيش الفرنسي بقيادة ولي العهد الفرنسي الأمير لويس، ضد ملك إنجلترا جون. اشتعلت الحرب نتيجة لرفض الملك وتنكُره للماجنا كارتا، التي تم التوقيع عليها في 15 يونيو 1215، ولطموحات الأمير الفرنسي الذين دخل الحرب بعد دعوة بعض البارونات له لدعمهم في الحرب. حرب البارونات الثانية دارت بين عامي 1263 و 1267. كان سببها محاولة الملك هنري الثالث تأكيد سلطته وسيادته في تعيين المستشارين، بعد إصدار مجلس البارونات لشروط أكسفورد عام 1258 وقوانين ويستمنستر عام 1259، والتي لم تكن مقبولة لدى هنري الثالث، لأنها تحد من صلاحياته، وتجعل السلطة بيد مجلس البارونات. لجأ البارونات إلى إعلان الحرب على الملك بزعامة سيمون دي مونتفورت عام 1263، رافضين الحكم الصادر من لويس التاسع ملك فرنسا الذي كان حكمًا بين الطرفين عام 1264، وكان لصالح الملك. انتصر دي مونتفورت في عام 1264 على لويس التاسع، وهو ما مكّنه من أن يكره لويس على الحكم لصالح مجلس البارونات. دعا دي مونتفورت البرلمان عام 1265 لتوطيد سلطاته، بعد نشوب الحرب من جديد بعد أن ثارت الأقاليم الحدودية بين إنجلترا وويلز، بسبب تحالف دي مونتفروت مع الويلزيين. قاد الأمير إدوارد القوات الملكية للانتصار في معركة إيفشام عام 1265، وقتل دي مونتفورت. بعد ذلك ضعفت قوة البارونات واستسلموا للملك عام 1267، بعد أن عجزوا عن تحطيم السلطة المطلقة للملك. )..أُبعد إثرها رماة السهام المتمردون عن ديارهم فلجئوا إلى الغابات..وسُنّت القوانين المجحفة والقاسية..وصودرت الأراضي والممتلكات..وازدادت ضرائب الملك على الفقراء..فتحولت إنجلترا إلى أرضية خصبة ومسرح للمجرمين اليائسين، الخارجين على القانون..الذين تحولوا في نظر الشعب - الذي أفقره الملك - إلى أبطال، نسجت حولهم القصص والروايات .. أشهرها تحكي عن روبن هود الأسطوري ورفاقه الرجال السعداء (تسمّى كذلك "ميري من" "Mery men "ومعناها الرجال المبتهجون، أو الرجال السعداء.وهي مكونه من 140 شخصا معظمهم من اليومن (أبناء الطبقة المتوسطة). أشهرهم: جون الصغير، ماريان خطيبة روبن.)..الذين اختبئوا في غابة شيروود وقاتلوا عمدة نوتنغهام. قصص فلكلورية خالدة وروايات كلاسيكية.. تطورت وتغيرت عبر الزمن .. لكن مغامرة هذا البطل لا تزال تحرك مخيلة الناس حتى أيامنا هذه.. لسنوات عديدة..اعتقد الكثيرون أنّ روبن هود مجرد قصة خيالية و فلكلور شعبي .. لكن ثمة دلائل ظهرت أخيرا تثبت أن روبن هود الرامي الماهر .. الخارج على القانون .. السيئ السمعة ... "شخصية حقيقية". سنزيح اللثام عن هذه الأسطورة .. وسنكشف هوية هذا البطل .. و من غابة شيروود ستكون البداية. شيروود ... موطن الأسطورة هي غابة ساحرة، مشهورة ومعروفة عالميا .. إذ يزورها أكثر من نصف مليون شخص سنويا.. تقدر مساحتها بـ 423.2 هكتارا .. افتتحت فيها حديقة عامة سنة 1969م من طرف مجلس مقاطعة نوتينغهامشايرNottinghamshair.. وفي سنة 2002 تم إعلان الغابة كمحمية طبيعية من طرف "إنجلش ناتير" English nature ... لكن ليس هذا ما يهمنا في الغابة .. ما يهمنا أكثر هو كونها ارتبطت تاريخيا بأسطورة روبن هود وأصبحت مكانا لا يقل شهرة عنه. ولا بد أن نشير إلى أن الغابات في القرون الوسطى اعتبرت المكان المثالي للصوص والخارجين على القانون .. حيث كانوا يسرحون ويمرحون. لجأ روبن هود إلى غابة شيروود، بعدما تم تجريده من أرضه وممتلكاته من قبل الملك جون .. هناك عاش مع عصابته المؤلفة من الرفاق السعداء.. يدافع عن الفقراء والمظلومين ويسرق من الأغنياء لصالحهم .. لقد كان زمن فقر واضطهاد .. فدخل روبن هود إلى قلوب الناس. أقدم الإشارات إلى روبن هود ظهرت أسطورة روبن هود للمرة الأولى في القرن 13م، قليل من الناس كانوا يجيدون القراءة والكتابة، فانتشرت القصص وشاعت من خلال قصائد شعرية وأغان روائية.. لكن هناك أغنيتين روائيتين تتحدثان عن أولى مغامرات روبن هود وتحملان دلائل تشير إلى هويته. الأولى عنوانها "روبن هود والراهب Robin des Bois et le moine ".. نُظمت في القرن 14م، في كنيسة القديسة مريم L'église Sainte-Marie وسط مدينة نوتنغهام. تخبرنا هذه القصيدة أنّ روبن هود جاء إلى نوتنغهام وحده، وصلّى في الكنيسة المذكورة. فتعرّف إليه أحد الرهبان. لأنّ روبن ورفاقه كانوا قد سلبوه في الغابة. خرج الراهب من الكنيسة واتجه نحو منزل العمدة وأخبره بمكان روبن . فحضر العمدة ورجاله وألقوا القبض عليه. ورموه في زنزانة داخل السجن.. لكن لحسن حظه عرف جون الصغير مكانه فأتى وأنقذه.. فعاد واختبئ داخل الغابة. مع أنّ الأبيات التي تتحدث عن روبن هود وهو يصلي في كنيسة القديسة مريم، تضعه في فترة زمنية محدّدة ومعروفة، إلاّ أنّها تطرح شكوكا حول مصداقيتها.. والسبب في ذلك أنّ هذه الكنيسة بُنيت مباشرة بعد كتابة القصيدة.. فكيف يكون قد صلّى فيها وهي لم تبن بعد؟؟. هنا سأتركك عزيزي القارئ مع بولين ميلر - التي قامت بتوثيق تاريخ الكنيسة- لتوضح لك أكثر: "بعد عدة سنوات وخلال أعمال تقوية أعمدة الكنيسة .. وجد المهندسون أنّ كنيسة أخرى كانت مكانها .. وهناك نقطة واحدة فقط نستطيع فيها رؤية جزء من كنيسة نورمن القديمة .. وهي عند قاعدة أحد الأعمدة". تعود أساسات كنيسة القديسة مريم إلى القرن 12م، وهي تُؤكد أنّ ثمّة كنيسة قديمة كانت قائمة هنا قبل كتابة القصيدة .. ربما يكون روبن قد صلّى فيها. غير بعيد عن الكنيسة، وعلى بعد عشرين مترا...يقع المتحف العدلي Musée Justice ، القسم الأسفل من هذا المبنى لم يكن فيما مضى سوى السجن المركزي لمقاطعة نوتنغهام. هو عبارة عن متاهة مؤلفة من كهوف تحت الأرض، والتي تُعد المكان الأكثر إثارة للرعب والخوف في انجلترا. لقد اكتشف حارس المتحف غاري هولمز مكانا لافتا، يُعتقد أن يكون هو القبو الذي رُمي فيه روبن حسب ما جاء في القصيدة. ما اكتشفه الحارس هو زنزانة خاصة لموقوفين من أمثال روبن هود ، اسمها oubliette أي المكان المنسي.وهي حفرة عميقة تقع تحت مستوى زنزانة المساجين العاديين، يتم إنزال المحكومين في الحفرة، ثمّ يُتركوا ليموتوا من الجوع .. إنها عميقة ومظلمة لن ينجوا أحد بداخلها. في قصيدة "روبن هود والراهب" يروى أنّ روبن رُمي في واحدة من هذه الحفر، ويُروى أيضا أنّ رجاله لما أرادوا إنقاذه عمدوا إلى إلقاء حبل داخل الحفرة ليتمكن من تسلقه. وهذه هي الطريقة الوحيدة لإخراجه من الزنزانة المنسية. القصيدة الثانية عنوانها "مغامرة روبن هود الصغيرة La Petite Geste de Robin des Bois "، يعتقد معظم الناس أنّ روبن من نوتنغهام، ولكن حسب هذه القصيدة فإنّ يوركشاير (تقع في شمال شرقي انجلترا. يحدها من الشرق بحر الشمال ومن الجهات الأخرى ثمان مقاطعات. تتميز يوركشاير بطابعها الريفي، وتشغل مساحة 14.400 كلم² وعدد سكانها 4.471.200 نسمة. عاصمتها الإدارية: نورثالرتون، أما مدنها الرئيسية فهي: سيفيلد..ليدز..برادفورد..يورك..هاليفاكس ودونكاستر.) هي مسقط رأسه ومكان وفاته أيضا. جاء فيها أنّ روبن هود تعرض إلى إصابة بليغة. فنقله جون الصغير إلى دير للراهبات يدعى دير "كوركليس Kirklees "، آملا أن تعالجه رئيسة الدير.. لكنها لسبب يُجهل قد خانته، فعالجت جزءا بسيطا من جراحه، وتركت جراحا أخرى تنزف حتّى الموت. وتروي القصيدة أيضا أنّ روبن هود قد رمى من إحدى نوافذ الدير سهمه الأخير، وطلب من جون الصغير أن يدفنه حيث يسقط السهم. إنّ دير كوركليس مكان حقيقي في يوركشاير، و توجد في أرض الدير مقبرة غامضة. كتبت عليها كتابة انجليزية قديمة تروي أنّ روبن هود مدفون في المكان. قصة أخرى ظهرت في أواخر القرن 16م تشير إلى وجود روبن هود.. لكنه هذه المرة رجل نبيل ومحارب شجاع في الجيش الإنجليزي. تبدأ القصة بعودة الملك ريتشارد قلب الأسد (هو ابن الملك هنري الثاني وملك انجلترا من 1189م إلى 1199م. ولد في أكسفورد سنة 1157م وتوفي في شالوس بفرنسا سنة 1199. نظرا لشجاعته وبسالته لُقب بقلب الأسد، ورغم أنّه أمضى أكثر أوقات حياته خارج المملكة إلاّ أنّ الإنجليز يعتبرونه بطلا قوميا.) من الحملة الصليبية الثالثة (امتدت هذه الحملة من 1189م إلى 1192م، هدفها إعادة السيطرة على الأراضي المقدسة بعد أن عاد وسيطر عليها صلاح الدين الأيوبي. قاد الجيوش الصليبية كل من فيليب أوغست الثاني ملك فرنسا، ريتشارد قلب الأسد وفريدريك الأول ملك ألمانيا، كان من نتائجها إبرام صلح الرملة.) التي قادها في فلسطين. وفي طريق العودة يتعرض الجيش الإنجليزي لهجوم فرنسي فيُقتل الملك ريتشارد قلب الأسد، ويقرر أتباعه - ومنهم روبن هود - العودة إلى انجلترا هروبا.. وفي الطريق يجدون روبرت لوكسلي - الذي كُلف بإعادة التاج إلى إنجلترا - قتيلا إثر كمين نُصب له من قبل أحد الإنجليز المتعاونين مع فرنسا.. ولذلك يقررون إعادة التاج بأنفسهم وتسليمه للملك الجديد وهو جون شقيق ريتشارد.. بعد ذلك يتضح مدى ضعف الملك جون ووضاعته ومحاولة "جود فري" الاستيلاء على السلطة والسيطرة على زمام الحكم وتأثيره على الملك جون لجمع المزيد من الضرائب ومصادرة أملاك البارونات .. وهو ما حدث بالفعل. يعمل الخائن "جود فري" بالتنسيق مع الفرنسيين لغزو إنجلترا .. إلا أن نواياه تُفتضح ويُكتشف أمره، فيتعاون روبن هود مع النبلاء لرد الغزو الفرنسي وقتل الخائن.. إلاّ أنّ الملك جون - الذي تعهد بمنح الحرية لمواطنيه و تسهيل ظروف معيشتهم - لم يعترف بصنيعهم، وتنكر لوعوده، ممّ دفع روبن هود وآخرين إلى التمرد واتخاذ السلب والنهب أسلوبا جديدا لحياتهم.. فيعلنهم الملك جون "خارجين على القانون". الوثائق التاريخية...رأي آخر تحتفظ مقاطعة يوركشاير بأرشيف يعود للقرون الوسطى .. وهو يحتوي على وثائق تتحدث عن مكان محدد يدعى "ويكفيلد Wakefield" غرب يوركشاير، وتذكر رجلا اسمه روبن هود. تعود هذه الوثائق إلى سنة 1309م.. وهي تأتي على ذكر روبن أو روبرت من ويكفيلد مرتين، وتذكر أنّه اعتدى على زوجة "هنري آرثر" - عمدة المقاطعة - فدفع غرامة قيمتها 12 قطعة نقدية. فقد عُرف عن الرجل أنّه لص منذ سنة 1309م. في وثيقة أخرى يذكر إسم روبرت هود عشرين مرة .. ويذكر أنّه ارتكب جرائم خفيفة كالسرقة وإثارة الشغب وذلك حتى سنة 1322م .. ويرجح بشدّة أن يكون روبرت من ويكفيلد هو روبن هود لكن بفارقين.. الأول: يتعلق برامي السهام الأسطوري. والثاني: عدم وجود سجلات تتحدث عن روبرت من ويكفيلد خارج على القانون .. أمّا روبن هود الأسطوري فلطالما اتسم بهذه الصفة. بالإضافة إلى هذا.. فقد جاء في دفاتر حسابات يوركشاير سنة 1226م، أنّ رجلا اسمه روبن هود قد فر من وجه العدالة، فأُخذت كل ممتلكاته ومقتنياته التي تركها خلفه وصُودرت علي يد العمدة .. لا ننسى أنّنا نتحدث عن القرن 13م وهو زمن كان يجرد فيه الفارون من ممتلكاتهم إذا ثبتت إدانتهم وتصادر أموالهم من قبل العمدة المحلي وتعطى للملك. دُونت هذه السجلات في ويستمنستر في لندن .. لكن روبن عاش في يوركشاير الواقعة على بعد 250 كلم..يبدو أنّه كان ذا سمعة سيئة جدا، بحيث ذاعت شهرته في أرجاء انجلترا في غضون سنة واحدة.. في زمن كان الخبر ينتقل فيه شفهيا من شخص إلى آخر. غير أنّ أحدث دليل على ذلك هو مخطوطة وجدت في كتاب تاريخ، وقد ذكر فيها أنّ روبن هود كان مجرما، وقد عاث فسادا هو ورفاقه في شيروود.. وفي مناطق أخرى من انجلترا، حيث تُخرق القوانين على نحو دائم.. وتحصل عمليات سطو وسرقة مستمرة، ويُذكر أنّ روبن قام بتلك الممارسات في فترة ممتدة من 1294م إلى 1299م. إنّ هذه الوثائق وغيرها ليست كالقصائد التي تقتصر على الروايات والقصص الشعبية التي لا تكلف نفسها عناء إثبات ما إن كانت حقيقة تاريخية أم خرافة... هذه الوثائق تتحدث عن رجل عاش في ذلك الزمن، وعمّ فعله في الزمن الذي عاش فيه. روبن في الأعمال السينمائية قصة روبن هود من القصص والروايات التي تتكرر سينمائيا.. فقد تم التطرق لها عدة مرات ابتداءا من سنة 1922م، وتكررت تحت مسميات مختلفة، ويمكن رصد 39 عنواناً سينمائياً يتعلق بذات الموضوع .. والمعروف أن موضوع روبن هود يتسم بمعان اجتماعية طغت على المعتقدات والقيم السياسية التي سادت في القرن 13م، ومن أهمها الصراع بين الأغنياء والفقراء ولذلك كان محط الاهتمام من قبل السينمائيين ، خصوصاً وأن الكثير منهم حاولوا تعزيز صورة مناصري الفقراء في الأوساط الشعبية.. لكن الفيلم الأخير من إنتاج 2010، يعتني بتطور وتكوين شخصية روبن هود ويعالج هويته ومشاركته في الحروب الصليبية ثم عودته إلى إنجلترا ومحاولته لعب دور المصلح الاجتماعي والسياسي وفشله في إقناع الملك بتبني إصلاحات أساسية ومشاركته في الدفاع عن انجلترا ضد الفرنسيين.. كل ذلك قبل أن يتحول إلى طائش وخارج على القانون. فيلم "روبن هود 2010م"، من إخراج البريطاني "ريدلي سكوت".. بلغت ميزانيته 155 مليون دولار .. وقد شارك فيه نخبة من النجوم وهم : الممثل النيوزيلندي "راسل كرو" بدور روبن هود.. كايت بلانشيت بدور ماريان.. ماكس فون سايدو (والتر لوسكلي وهو والد روبرت).. مارك سترونج ( الخائن غود فروي).. إيلين اتكينز ( الملكة إليانور والدة ريتشارد وجون).. داني هيوستن ( الملك ريتشارد قلب الأسد).. أوسكار إسحاق (الملك جون ).. ماثيو ماكفادين ( عمدة نوتنغهام).. كيفين دوراند ( جون الصغير). شخصيات مشابهة يبدو أنّ عنصر الخروج على القانون.. وانتهاج أسلوب السرقة من الأغنياء لإطعام الفقراء.. لم يكن من خصائص روبن هود لوحده. فإذا ما اطلعنا على بعض الثقافات الشعبية سنجد نماذج أخرى.. مثل زورو (يعني "الثعلب" بالإسبانية)، الذي اشتهر بقناعه وعباءته السوداء وحرف Zالذي يتركه بعد كل مواجهة.. زورو شاب مكسيكي مثقف من عائلة أرستقراطية يدعى "دون دييغو دي لا فيغا".. كانت المكسيك وقتها مستعمرة إسبانية، فأبى هذا الشاب إلاّ أن يدافع عن أبناء شعبه الذين تعرضوا لظلم واضطهاد الإسبان. الثقافة العربية أيضا لم تخل من شخصيات مماثلة حيث ظهر عروة بن الورد بن زيد العبسي كنصير للفقراء، عروة هذا كان شاعرا من غطفان وفارسا من فرسانها وصعلوكا من صعاليكها. كان يسرق ليطعم الفقراء، وقد لقب بـ "عروة الصعاليك" لجمعه إياهم وقيامه بأمرهم. فهو لا يغزو للنهب والسلب كباقي شعراء الصعاليك أمثال "الشنفرى وتأبط شرا" وإنما يغزو ليُعين الفقراء والمستضعفين. والطريف أن غاراته كانت تستهدف فقط من عرفوا بالبخل .. و بلغ عروة من الكرم والسخاء أنه كان لا يؤثر نفسه بشيء على من يرعاهم من صعاليكه ، فلهم مثل نصيبه سواءً شاركوا في الغارات أو لم يشاركوا، وهو بذلك يضرب مثلا رفيعاً في الرحمة والإيثار. ختاما إنّ أسطورة روبن هود تعدّ بحق من أروع الأساطير الشعبية على مر العقود .. وقد حاولنا في هذا المقال الإلمام ببعض جوانبها.. وإن كانت في الواقع تحتاج إلى كتب لتغطيتها. وسواء أكانت قصة روبن هود حقيقية أو خيالية، فإنّها تتحدث عن المواجهة الأبدية بين الخير والشر.

الجمعة، 13 نوفمبر 2020

نوفمبر 13, 2020

قصة اسرار الصحراء - صحراء الربع الخالي (Rub al-Khali Desert )

 

صحراء الربع الخالي (Rub al-Khali Desert ) هي اكبر صحراء رملية في العالم (هل تعلم عزيزي القارئ أن اكبر صحارى العالم هي القطب المتجمد الجنوبي!! لا تتعجب , فلا يشترط في الصحراء أن تكون حارة لكنها يجب أن تكون مقفرة و ليس للقطب الجنوبي منافس في هذا المجال , أما اكبر الصحارى الحارة فهي الصحراء الكبرى في شمال أفريقيا و لكن صحراء الربع الخالي هي الأكبر من حيث حجم الرمال الموجودة فيها.) تقع في الجزء الجنوبي الغربي من شبه الجزيرة العربية و تغطي مساحة 650000 كم مربع أي ما يعادل مساحة فرنسا و بلجيكا و هولندا مجتمعة , و تتقاسم رقعة هذه الصحراء أربعة دول هي المملكة العربية السعودية التي يقع القسم الأكبر من الصحراء داخل حدودها و الإمارات العربية المتحدة و سلطنة عمان و الجمهورية اليمنية , و قد سميت هذه الصحراء بالربع الخالي لخلوها من الحياة تقريبا فهي من أكثر بقاع الأرض قسوة من حيث الظروف المناخية إذ تبلغ درجة الحرارة في الصيف أكثر من 55 درجة مئوية و تغطيها كثبان رملية يصل ارتفاع بعضها إلى أكثر من 200 متر , الشكل الوحيد للحياة في هذه الصحراء يتمثل في بعض النباتات و العناكب و الطيور و القوارض الصغيرة , أما بالنسبة للإنسان فلا توجد سوى بعض القبائل البدوية التي تعيش على أطراف الصحراء و تتحاشى التوغل داخلها. ظلت أرجاء هذه الصحراء مجهولة لقرون طويلة تدور حولها الأساطير و الخرافات و لا يجرؤ احد على اقتحام بواباتها الجهنمية , لكن في عام 1932 قام الانكليزي برترام توماس بأول رحلة موثقة لعبور الصحراء قام خلالها باكتشاف بعض أرجائها و دراسة نباتاتها و المخلوقات الصغيرة التي تعيش فيها , و خلال هذه الرحلة سمع توماس لأول مرة بقصة " عبار " المدينة الضائعة أثناء ضيافته في خيم البدو الساكنين في أطراف الصحراء , و مع أن برترام ذكر هذه القصة في كتابه حول الصحراء إلا انه على الأرجح لم يأخذها على محمل الجد , لكن هذه القصة أثارت الحماسة و الطمع في نفس رجل انكليزي اخر هو عميل المخابرات البريطانية جون فليبي الذي قام بعدة رحلات استكشافية للبحث عن "عبار" منذ عام 1932 , و لسوء حظ فلبي او الشيخ عبد الله كما كان يطلق على نفسه فأنه لم يجد أي اثر للمدينة الضائعة لكنه عوضا عن ذلك اكتشف أمرا مهما , فبين الكثبان الرملية شاهد آثار طبقات جيرية بيضاء بدت كما لو انها ترسبات مسطحات مائية قديمة و اكتشف بقايا عظمية لحيوانات من بينها أسنان لحيوان فرس النهر و هو أمر أثار استغرابه , فماذا تفعل أفراس النهر التي تعيش في المياه و قربها في صحراء الربع الخالي القاحلة ؟ لم يكن لهذا السؤال المحير سوى جواب واحد و هو ان هذه الطبقات الجيرية البيضاء ما هي إلا بقايا لبحيرات مائية كانت موجودة في الصحراء في عصور سحيقة القدم , و قد اكد هذا الاستنتاج الكثير من العلماء و الجيولوجيين الذين درسوا المنطقة خلال العقود التالية , كما ان اكتشاف كميات هائلة من النفط وسط الصحراء دعمت هذه الفرضية , فالنفط يتكون من بقايا المواد العضوية المدفونة تحت الأرض و هذا يؤكد غنى صحراء الربع الخالي بالحياة النباتية و الحيوانية في العصور القديمة. احدث النظريات حول تاريخ الربع الخالي تؤكد ان المنطقة مرت بفترتين تميزتا بدرجات حرارة معتدلة و تزايد نسبة هطول الأمطار مما أدى إلى ازدهار الحياة النباتية و الحيوانية , الفترة الأولى استمرت من 37000 الى 17000 ألف سنة ماضية و الفترة الثانية استمرت من 10000 الى 5000 سنة ماضية , أي ان الجفاف الكبير حدث في حدود عام 3000 قبل الميلاد , و لو صدقت هذه النظرية فأنها ستحل لغزا تاريخيا كبيرا حول هجرة الأقوام السامية , فمع بداية الألف الثالث قبل الميلاد حدثت هجرة بشرية كبيرة من الجزيرة العربية تمثلت في الأقوام الاكدية و الامورية التي توجهت شمالا نحو سوريا و العراق , و نحن هنا لسنا بصدد مناقشة الأحداث التاريخية التي صاحبت هذه الهجرات لكن ما يهمنا في الموضوع هو التساؤل عن السبب الذي دفع الى هجرة كل هذه الجموع البشرية الضخمة فجأة و في وقت واحد و الجواب يكمن بدون شك في الطقس و المناخ الذي تبدل بشكل كبير منذ خمسة ألاف سنة , فتحولت الأراضي الخضراء التي كانت أشبه ما تكون بغابات الهند المطرية و التي كانت تغطي ارض الجزيرة العربية الى صحاري قاحلة اضطرت بسببها نسبة كبيرة من السكان الى الهجرة نحو الشمال , و ربما لم يتبقى من حياتهم في شبه الجزيرة العربية سوى ذكريات تداولها العرب على شكل قصص حول القبائل العربية المنقرضة او ما يعرف بالعرب البائدة (العرب البائدة هم أقوام و قبائل قديمة اندثرت و انقرضت بعد ان كانت تشكل السكان الأصليين للجزيرة العربية و من أشهر هذه الشعوب الذي ذكرها النسابون و المؤرخون العرب هم عاد وثمود والعماليق وجرهم وطسم وجديس و أميم و عبيل و وبار ، و قد انقرضت جميعها قبل الإسلام بزمن طويل و من نسل امرأة من جرهم تزوجها النبي إسماعيل (سرياني) ولد عدنان الذي تنتسب له اغلب قبائل العرب و شعوبها اليوم (العرب المستعربة).) , و مهما حاول علماء التاريخ الغربيين التدليس حول أصل الأقوام السامية الا ان الفرضية المنطقية الوحيدة هي انهم هاجروا من جنوب الجزيرة العربية فلا يعقل ان يكونوا أتوا من مصر عبر سيناء فالفراعنة كانوا حاميين و لم يكونوا ساميين (حول أصل الفراعنة او المصريين القدماء هناك لغط و جدل تاريخي مستمر منذ فترة طويلة و هو ليس محل للبحث في هذه العجالة , لكن للتوضيح ينبغي ان نذكر ان الفراعنة و الامازيغ (البربر) هم من الجنس الأبيض أي أنهم ليسوا أفارقة لذلك فالرأي الغالب هو أنهم يرجعون في أصولهم إلى هجرات قديمة دخلت الى مصر عبر سيناء قبل أكثر من عشرة ألاف سنة , مع التأكيد مرة أخرى بأن هذا الرأي ليس قاطعا و لا مؤكدا و ان الهجرات و الغزوات المستمرة من قبل أمم و شعوب مختلفة احتلت مصر على مر العصور قد أثرت على تركيبتها السكانية بشدة حالها في ذلك حال العراق و الشام و شمال أفريقيا.) , و لا يعقل ان يكونوا اتوا من جهة الشرق او الشمال أي إيران و تركيا فهذه المناطق كانت تسكنها قبائل و شعوب هندو – أوربية , و لا يبقى الا خيار الجنوب او أن يكونوا أتوا من كوكب أخر !! و إحدى أشهر القبائل العربية المنقرضة هي عاد و التي ذكرها القرآن الكريم : فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ {15} فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ لِّنُذِيقَهُم عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنصَرُونَ {16} سورة فصلت عاد كانت مساكنهم في الجهة الجنوبية من الربع الخالي , اي شمال حضرموت , و قد كانوا في غنى و ثراء فاحش , و هذه ليست أسطورة فالثروة لم تهبط عليهم من السماء و لكن بسبب تحكمهم بتجارة اللبان العربي (العلكة) التي كانوا يصدرونها الى الشام و مصر عبر طرق تجارية كانت تمر في صحراء الربع الخالي , و كانت لهم عدة مدن كبيرة ربما تكون أشهرها هي "عبار" او ارم ذات العماد "ذات الألف عمود" و قد ورد ذكرها في الكتابات التاريخية القديمة في اليمن و بعض الكتب القديمة للمؤرخين الإغريق و هو ما يؤكد صحة وجودها , و قد اختفى قوم عاد من على وجه السطيحة فجأة في حوالي القرن الرابع قبل الميلاد و اختفت مدنهم المزدهرة معهم و لم يتبقى منهم سوى قصص أسطورية تناقلتها الألسن اعتبرها علماء التاريخ مجرد خرافات لا أساس من الصحة لها , لكن ما حدث في ثمانينيات القرن المنصرم جعل هذه الخرافات تتحول الى حقيقة ماثلة للعيان , فقد رصدت الأقمار الصناعية طرق القوافل القديمة التي كانت تمر عبر الربع الخالي باتجاه الشمال , و عندما تتبع العلماء مسير هذا الطريق المؤدي من الجنوب الى سلطنة عمان وصلوا الى واحة صغيرة و بالقرب منها شاهدوا بقايا حصن قديم , في البداية ظنوا ان الحصن حديث البناء يعود الى عدة قرون خلت , لكن عندما بدءوا ينقبون في الموقع اخذوا يكتشفون أواني و جرار فخارية إغريقية و رومانية و فرعونية تعود الى ألاف السنين , و بدئت تنتابهم الحيرة , هل اكتشفوا "عبار" المدينة الضائعة ؟ كانت جدران الحصن سميكة و بارتفاع ثلاثة أمتار مع ثمانية أبراج ضخمة للمراقبة , و يبدو ان الحصن او المدينة الصغيرة لاقت نهاية مأساوية في زمن ما بعد ميلاد المسيح بقرن او قرنين , لقد خسفت الأرض بها , اذ يبدو انها بنيت فوق طبقة صخرية كلسيه تغطي تحتها كهف مائي ضخم كان السكان و القوافل تستعمل مياهه للشرب , لكن حدث ان جف او قل منسوب المياه في هذا الخزان المائي الطبيعي مما أدى الى ان تخسف الأرض بالحصن على حين غرة , و رغم أهمية هذا الاكتشاف الا ان اغلب العلماء اليوم لا يعتقدون بأن هذا الحصن هو بقايا مدينة "عبار" او "إرم ذات العماد" , بل يذهبون الى انه كان مجرد استراحة للقوافل أثناء مرورها بالصحراء , و ان ارض شعب عاد كانت تحتوي على العديد من الحصون و المدن , شأنها في ذلك شأن جميع الحضارات العظيمة , و ان اغلب هذه المدن العظيمة لازالت قابعة تحت أطنان من رمال الصحراء بانتظار من ينتشلها من هناك و لا يعلم سوى الله ما تخبئه من كنوز و أسرار (ينبغي التنويه ان المملكة العربية السعودية نظمت عدة رحلات استكشافية للصحراء في السنوات الأخيرة و قد تم اكتشاف أنواع جديدة من النباتات و الطيور خلالها.).


نوفمبر 13, 2020

قصة عازف المزمار السحري من هاملن (Pied Piper of Hamelin )

 

عازف المزمار من هاملن (Pied Piper of Hamelin ) هي حكاية من التراث الألماني نالت قسطا وافرا من الشهرة العالمية بعد أن كتب ونظم عنها أدباء وشعراء كبار أمثال جوته والأخوان غريم والشاعر روبرت براوننغ. وهي في مجملها لا تختلف كثيرا عن غيرها من الحكايات الشعبية التي تعتمد على السحر والخوارق للقفز فوق أسوار الممكن والمعقول. ولا أحسب بأن قارئها للمرة الأولى سيرى فيها أكثر من مجرد حكاية خرافية تنطوي على شيء من الموعظة التي تدور حول عاقبة البخل والنكث بالعهود، بيد أن هذا الانطباع الأولي قد لا يكون صادقا تماما، فالحكاية بحسب بعض الوثائق التاريخية ليست مجرد خرافة وخيال، لكنها انعكاس باهت ومشوش لوقائع جرت بالفعل قبل قرون بعيدة، وقائع تبعثرت وضاعت مجرياتها وتفاصيلها تحت عجلة الزمن التي لا تتوقف أبدا عن الدوران فلم يتبق منها في النهاية سوى شظايا مبعثرة سنحاول جمعها معا في هذه المقالة .. لكن دعونا نطلع على تفاصيل الحكاية أولا .. حكاية عازف المزمار القصة باختصار تتحدث عن مدينة هاملن الألمانية الواقعة على ضفاف نهر فيسر والتي غزتها الجرذان فجأة بأعداد كبيرة حتى ضاق السكان ذرعا بها وأوشكوا بسببها على ترك منازلهم والهجرة إلى مدن أخرى بعد أن فشلت جميع محاولاتهم في التخلص منها. وفي مسعى أخير لإنقاذ المدينة أعلن رئيس بلديتها عن مكافأة قدرها 1000 قطعة ذهبية تقدمها المدينة فورا لكل من يستطيع تخليصها من أسراب الجرذان الغازية. ولم يمض وقت طويل على هذا الإعلان السخي حتى ظهر عازف مزمار غريب يرتدي ملابس المهرجين زعم بأنه قادر على تخليص المدينة من جرذانها بواسطة ألحان مزماره السحري. سكان هاملن سخروا في بادئ الأمر من إدعاءات الرجل، لكن سرعان ما عقدت الدهشة ألسنتهم حين شاهدوا الجرذان الكريهة وهي تغادر جحورها بالجملة على وقع الألحان السحرية لتمضي جميعها خلف عازف المزمار الذي قادها نحو ضفة نهر كبير خارج المدينة وجعلها تقفز إلى مياهه لتغرق عن بكرة أبيها. وبعد قضاءه المبرم على الجرذان عاد عازف المزمار إلى المدينة مطالبا بمكافأته، لكن سكان هاملن الجاحدين تنكروا لوعودهم السابقة ورفضوا أن يعطوه حتى ولو قطعة ذهبية واحدة، وليتهم أكتفوا بذلك، بل كادوا أن يزجوا به في السجن بتهمة الشعوذة وممارسة السحر. وإزاء هذا الغدر والجحود قرر عازف المزمار أن ينتقم منهم شر انتقام، فعاد في صباح اليوم التالي بينما كان جميع الرجال والنساء مجتمعين معا في دور العبادة احتفالا بأحد الأعياد الدينية، وقف عند بوابة المدينة وبدأ يعزف ألحانه السحرية من جديد، وهذه المرة كان لتلك الألحان وقعا وأثرا سحريا عجيبا على أطفال هاملن الذين ما أن التقطت آذانهم الصغيرة تلك الموسيقى الشجية حتى تركوا منازلهم وهرولوا نحو عازف المزمار لا يلوون على شيء، وتماما كما حدث مع الجرذان، فقد قاد عازف المزمار الأطفال إلى خارج المدينة، لكنه لم يلقي بهم في النهر بالطبع، وإنما آخذهم معه إلى داخل جبل كبير يقع عند أطراف مدينة هاملن واختفى هناك مع الأطفال إلى الأبد. وقد كان ذلك بالتأكيد هو أشد وأقسى عقاب يمكن أن يناله سكان هاملن جراء بخلهم ونكثهم للوعود والعهود. ويقال بأن الأطفال مازالوا يعيشون حتى يومنا هذا داخل الجبل، يلعبون ويمرحون مع عازف المزمار في مروج وحدائق سحرية تحتوي على كل ما يشتهيه الأطفال ويتوقون أليه. حقيقة أم خرافة؟ هناك غموض كبير يلف حكاية عازف المزمار في ظل وجود العديد من المصادر والشواهد التاريخية التي تزعم بأن القصة واقعية جرت أحداثها بالفعل في أواخر القرن الثالث عشر الميلادي. ولعل أبرز تلك الشواهد هي الموجودة في هاملن نفسها حيث ينتصب اليوم في وسط المدينة منزل قديم يعود إلى العصور الوسطى يدعوه الناس بمنزل عازف المزمار (Ratten¬fängerhaus ) وبخلاف ما يوحي به الاسم فأن عازف المزمار لم يسكن في ذلك المنزل مطلقا، لكن السبب وراء التسمية يعود في حقيقة الأمر إلى وجود بلاطة سوداء على أحد جوانب المنزل نقشت عليها العبارة التالية : "في 26 يونيو / حزيران عام 1284 ميلادية .. في يوم عيد القديسين جون وبول .. مائة وثلاثون طفلا من أطفال هاملن خدعوا واقتيدوا إلى خارج المدينة على يد عازف مزمار يرتدي ملابس ملونة، وبعد أن عبروا التلال في كوبنبيرغ اختفوا إلى الأبد". وهناك أيضا شارع في المدينة يعرف بأسم (Bungelosen¬strasse ) يقال بأنه كان آخر مكان شوهد فيه الأطفال قبل اختفائهم، ولهذا السبب يمتنع الأهالي عن عزف الموسيقى داخل هذا الشارع، وهو تقليد أستمر منذ القرون الوسطى وحتى يومنا هذا، فجميع الأعراس والجوقات الموسيقية تتوقف تماما عن العزف والغناء عند مرورها في هذا الشارع كدلالة احترام لذكرى الأطفال المفقودين. ومن الشواهد الأخرى وجود نافذة زجاجية ملونة داخل كنيسة السوق القديمة، هذه النافذة صنعت عام 1384 تخليدا لذكرى مرور 100 عام على اختفاء الأطفال، وهي تصور عازف المزمار بثيابه المبهرجة وخلفه يسير الأطفال مرتدين ملابس النوم البيضاء، وفي الأسفل نقشت الكلمات التالية : "100 عام مضت على رحيل أطفالنا". المخطوطات الألمانية القديمة تطرقت هي الأخرى إلى اختفاء الأطفال. أقدم تلك المخطوطات هي سجلات الكنيسة في هاملن والتي يعود تاريخها إلى عام 1351، وتعتبر هذه السجلات في غاية الأهمية لأنها تمثل شهادة حية على حقيقة ما جرى. وهناك أيضا مخطوطة ليونبيرغ التي تعود إلى عام 1370 ميلادية، والتي يؤكد كاتبها على أن أطفال هاملن خطفوا على يد عازف مزمار يرتدي ملابس ملونة، وأن الحادثة وقعت بالفعل عام 1284. ما الذي حدث فعلا في هاملن؟ رغم وجود العديد من الشواهد والقرائن التاريخية التي تؤكد واقعية الحكاية، إلا أن التصديق بهذه الواقعية سرعان ما يصطدم بإشكالية الجانب الخرافي لمجرياتها وأحداثها، ولهذا السبب فقد شهدت العقود القليلة الماضية ظهور العشرات من الكتب والبحوث التي حاولت وضع نظريات وفرضيات مختلفة ترمي إلى فهم وتفسير ما جرى حقا قبل أكثر من سبعة قرون من الزمان داخل مدينة هاملن الألمانية. وأهم هذه النظريات هي ما يلي : نظرية المجاعة الكبرى القرن الرابع عشر الميلادي كان من أسوء القرون التي مرت بالقارة الأوربية، توالت خلاله المصائب والنوائب لتعصف بكيان القارة العجوز وتزلزل أركانها بعد أن نعمت بفترة طويلة نسبيا من الاستقرار والازدهار. أولى تلك البلايا تجسدت في المجاعة الكبرى (Great Famine ) التي حلت بأجزاء واسعة من القارة ابتداء من سنة 1315، ففي تلك السنة المشئومة لم يأتي الصيف أبدا واستمر المطر بالهطول بكثافة خلال فصلي الربيع والصيف، وهي ظاهرة جوية نادرة لا تحدث سوى مرة واحدة كل عدة قرون. وبطبيعة الحال فقد تسببت السماء الملبدة بالغيوم والإمطار المتواصلة في بقاء درجات الحرارة متدنية فتلفت المحاصيل الزراعية ولم يتمكن الفلاحون من زراعة محاصيل جديدة بسبب رطوبة وبرودة الجو، وأدى ذلك بالتالي إلى انخفاض مخزون الطعام وتفشي القحط والغلاء إلى درجة راح معها الفقراء يقتاتون على جذور النباتات والأعشاب البرية. وليت الأمر توقف عند هذا الحد، فأكثر الناس تشاءما لم يظنوا بأن المطر سيستمر بالهطول حتى صيف العام التالي، لكن السماء سرعان ما خيبت ظنونهم، فالأمطار استمرت في الهطول في ربيع وصيف عام 1316 أيضا، وبحلول عام 1317 لم يعد الناس يجدون ما يأكلونه بعد أن أكلوا كل شيء خلال السنتين الماضيتين، ووصل تأثير المجاعة إلى طبقة الأغنياء والنبلاء بعد أن كان مقصورا على المزارعين الفقراء، حتى أن ملك انجلترا إدوارد الثاني لم يجد رغيف خبز واحد يأكله حين نزل هو وحاشيته ببلدة سانت البانز الانجليزية فبات ليلته تلك جائعا، وهي مفارقة يندر حدوثها في تاريخ الملكيات الأوربية. المجاعة الكبرى حصدت أرواح ملايين البشر خلال عامين، أغلبهم ماتوا جوعا بالطبع، لكن هناك أيضا نسبة غير قليلة ممن فقدوا حياتهم بسبب تفشي الجريمة والعنف والتي ارتفعت إلى مستويات قياسية خلال تلك الحقبة السوداء، فالناس ما عادوا يكترثون كثيرا للنواهي الدينية وللقيم الأخلاقية لشدة ما عانوه وكابدوه وهول وفظاعة ما شاهدوه خلال السنين التي جثمت فيها المجاعة على قلوبهم، ولهذا أصبحت جرائم السلب والنهب والقتل أمورا عادية تحدث في وضح النهار، وانتشرت قصص كثيرة عن تفشي أكل لحوم البشر، وأخذ الكثير من الناس ينبذون أطفالهم بعد أن عجزوا عن أطعامهم وما عادوا يتحملون رؤيتهم وهو يئنون من الجوع، فكانت الأم تأخذ صغارها إلى السوق وتتركهم هناك لكي يموتوا بعيدا عن ناظريها، أو يأخذهم الأب إلى الغابة ويطلب منهم الانتظار تحت شجرة ثم يفر منهم ويهجرهم هناك ليموتوا جوعا أو تلتهمهم الدببة والذئاب. ويرى بعض الباحثين بأن نبذ الأطفال من قبل والديهم الذي تفشى بكثرة أبان المجاعة، إضافة طبعا إلى الجرائم التي اقترفت بحق الأطفال، كاختطافهم من اجل قتلهم وأكلهم، كل هذا يرتبط بصورة وثيقة مع ما جرى لأطفال هاملن، فألمانيا لم تكن بعيدة عن أهوال المجاعة الكبرى، بل كانت في صميمها، وليس من المستبعد أن يكون أطفال هاملن قد جرى اختطافهم من قبل آكلي لحوم البشر، أو ربما نبذهم أهلهم في الغابات القريبة من المدينة بعد أن عجزوا عن أطعامهم، وبمرور السنين ضاعت وانطمست ذكرى تلك الأحداث المأساوية ولم يتبق منها في النهاية سوى حكاية خرافية ترويها الجدات لأحفادها في ليالي الشتاء الباردة. نظرية الطاعون الأسود لم تكد غمامة المجاعة تنجلي عن سماء أوربا الملبدة بغيوم البؤس والموت حتى عالجها القدر بمصيبة وفاجعة أكبر. فبعد أن رحل الجوع .. أتى المرض .. وأي مرض؟! .. انه الطاعون، ذلك الوباء الفتاك الذي أفترس أرواح ما يربو على نصف سكان القارة العجوز خلال أربعة أعوام فقط. الطاعون وصل إلى أوربا قادما من الصين بعد سفرة طويلة أستل خلالها ملايين الأرواح في الهند وإيران وتركيا. وقد كانت منطقة شبه جزيرة القرم هي المحطة الأولى للطاعون على التراب الأوربي، حيث حل ضيفا ثقيلا هناك في عام 1346 ثم ما لبث أن سافر بحرا إلى جنوب ايطاليا وفرنسا واسبانيا وبحلول عام 1350 كان الطاعون قد تفشى في معظم أجزاء القارة الأوربية، لكن رحلته لم تنتهي هناك، فقد سافر مجددا بعد أن ارتوى وشبع من الدم الأوربي، هذه المرة حملته السفن التجارية إلى مصر وشمال إفريقيا والشام والحجاز والعراق. مما لا شك فيه أن الطاعون الأسود كان من أعظم البلايا التي حلت بالبشرية، فهذا المرض القاتل حصد خلال سنوات قليلة ما يقارب من ثلثي أرواح سكان جنوب أوربا، ونصف سكان وسط أوربا، وربع سكان انجلترا وألمانيا، و40 بالمائة من سكان مصر والشام والعراق والسعودية واليمن. وقتل بالإجمال ما مجموعه 100 – 200 مليون من تعداد سكان العالم الذي كان يقدر آنذاك بحوالي 450 مليون نسمة. أي أنك لو كنت حيا في ذلك الزمان عزيزي القارئ لكانت نسبة نجاتك من الموت لا تزيد كثيرا عن الخمسين في المائة، وحتى لو افترضنا جدلا بأنك كنت ستنجو فلا أظنك كنت ستفرح كثيرا لنجاتك لأن كنت ستشاهد الموت وهو يسحق أجساد ويستل أرواح أعز الناس إليك، كنت سترى أهل بيتك وجيرانك وأبناء مدينتك ممددون في الشوارع جثث هامدة لا يجدون من يدفنهم، رائحة وعفونة الجثث المنتفخة كانت ستزكم أنفك، ومنظر الموت بأبشع صوره كانت ستلاحقك أينما يممت وجهك، فرعب الطاعون لا يكمن في عدد ضحاياه فقط، بل في صفته وأعراضه أيضا. أول تلك الأعراض كانت تتمثل في ظهور أورام كبيرة بحجم البيضة على الفخذ وتحت الإبط، لا تكون مؤلمة في البداية، لكنها سرعان ما تتكاثر وتنتشر في سائر أجساد الجسد ثم تتحول تدريجيا إلى بثور سوداء كريهة ومؤلمة تنزف دما، ويكون انتشارها مصحوبا بحمى عالية وآلام شديدة في سائر مفاصل الجسد وقد يتقيأ المريض دما. وربما يكون الشيء الوحيد الجيد بشأن الطاعون هو أن عذاب المريض لا يطول كثيرا، فالموت غالبا ما يدركه بعد يومين إلى سبعة أيام من ظهور الأعراض. الطاعون الأسود ترك آثارا لا تمحى في الذاكرة الجماعية الأوربية، ولهذا يحاول بعض الباحثين أن يربطوا بينه وبين ما جرى لأطفال هاملن، ويرى هؤلاء الباحثين بأن قصة عازف المزمار هي في الحقيقة حكاية الوباء القاتل الذي ضرب المدينة فقتل أغلب سكانها، فالجرذان في الحكاية ترمز إلى الوسيلة التي أنتقل فيها المرض بين السكان، في حين يرمز عازف المزمار إلى الموت الداهم الذي يرقص طربا على آهات وعذابات البشر. فمنذ القرن الخامس عشر درج فنانو أوربا على تصوير الموت في هيئة هياكل عظمية ترقص مع الأحياء عند المقابر. وكان الناس من جميع الأعمار والمشارب، الملك والقس والتاجر والمزارع والمرأة والطفل الخ .. يظهرون في تلك اللوحات الكئيبة وهم يرقصون يدا بيد مع تلك الهياكل التي ترتدي الثياب الملونة. وكان الرسام يرمي من وراء ذلك إلى إبراز عبثية الحياة الفانية وسخرية الأقدار التي تساوي بين الجميع في حضرة الموت. نظرية حملة الأطفال الصليبية هذه النظرية تحاول الربط بين الحكاية وبين ما يعرف بحملات الأطفال الصليبية (Children's Crusade )، وهي حملات صليبية سلمية حركتها المشاعر الدينية المتأججة لبسطاء الناس في أوربا القرون الوسطى. وكان وراء هذا الحراك الشعبي أطفال صغار كالصبي الألماني نيكولاس الذي كان في العاشرة من عمره عام 1212 حين زعم بأن السيد المسيح تجلى أمامه بينما كان يرعى أغنامه في البرية وأمره بأن يسير نحو القدس ليسترجعها بسلام ومن دون إراقة دماء. وهكذا تحول نيكولاس، الراعي الفقير إلى قديس ومعجزة بنظر الناس، أعانه على ذلك موهبته الفذة في شحن وتسخير عقول الجماهير عن طريق خطبه الدينية الحماسية التي كان يلقيها بأسلوبه الطفولي البريء والبسيط فتمس شغاف القلوب بسهولة وتستدر الدموع بلا استئذان وتجيش له ما شاء من المريدين والأتباع. وقد تضاعف تعلق الناس بهذا القديس الصغير بعد الأخبار والإشاعات الكثيرة التي انتشرت في كل مكان حول معجزاته في شفاء المرضى وكذلك نبوءاته التي زعم نيكولاس خلالها بأن وجه الماء سينفلق عند قديمه ما أن يقف على ساحل البحر الأبيض المتوسط، وبأنه وأتباعه سيجتازون البحر مشيا على الأقدام نحو القدس تماما كما حدث مع موسى وبنو إسرائيل حين لاحقهم فرعون وجنده. طبعا ليس جميع الناس أمنوا بما يقوله نيكولاس، ولا جميع الكنائس صدقت نبوءاته ومزاعمه، لكن الغالبية الساذجة من أهل ذلك الزمان صدقوه وأمنوا به، لا بل وأرسلوا معه فلذات أكبادهم ليرافقوه في رحلته نحو الديار المقدسة حتى جاوز عدد من تبعه السبعة آلاف طفل، خرج معظمهم للمشاركة في الحملة من دون تهيأ ولا استعداد، كانت العاطفة البريئة هي زادهم الوحيد، لم يملكوا غيرها زادا من مال أو طعام، فراحوا يدقون الأبواب على طول الطريق يتوسلون اللقمة من الكنائس والأديرة ومنازل الناس وناموا أغلب لياليهم في العراء على جوع وبرد، وقد خسر الكثير منهم حياته خلال رحلة الذهاب الصعبة والشاقة التي اجتازوا خلالها قمم الألب الشاهقة وصولا إلى سواحل البحر الأبيض المتوسط. لكن ليس كل ما يطلبه المرء يدركه، فذلك الماراثون الطويل من الكد والجهد والتضحية أنتهي إلى خيبة أمل كبيرة حين وصل نيكولاس وجيشه الصغير إلى ساحل البحر في جنوه الايطالية. وقفوا هناك وانتظروا لساعات وأيام وأسابيع طويلة بانتظار المعجزة .. لكن شيئا لم يحدث .. لا البحر أنفلق ولا وقع أي أمر خارق للعادة على ذلك الساحل المنحوس. وراح اليأس يتسلل بهدوء إلى القلوب الصغيرة الواجفة، وبدأ ذلك البنيان الشاهق من الأوهام التي أسس نيكولاس عليها شعبيته الطاغية يتصدع شيئا فشيئا، فأرتفع الهمس واللمز على ألسنة أولئك الأتباع المخلصين المنتظرين بصبر على ذلك الساحل المقفر .. "هل كان نيكولاس كاذبا منذ البداية؟" .. تساءل بعضهم بحزن وراحوا يتهيئون للعودة إلى أوطانهم، في حين رفض آخرون أي تشكيك بنزاهة نيكولاس، وفي لحظة من الحماسة الغبية صعد هؤلاء إلى ظهر بضعة سفن تجارية قادوها مباشرة صوب القدس، لكنهم لم يبتعدوا عن الساحل الايطالي كثيرا، فسرعان ما وقعوا أسرى بيد القراصنة وبيعوا كرقيق في أسواق النخاسة في تونس. أما نيكولاس نفسه وبقية أتباعه فقد شدوا الرحال عائدين لأوطانهم بعد يأس وطول انتظار. وكم كانت رحلتهم مأساوية وشاقة .. مساكين أولئك الصغار .. أولاد وبنات بعمر ونقاء الورود .. تساقطوا واحد بعد الأخر على طول الطريق بعد أن أنهكهم التعب وأضناهم الجوع. نيكولاس نفسه سقط ميتا مع المتساقطين ولم ينجوا من جيش الأطفال ذاك سوى عدد ضئيل. المصادر التاريخية الأوربية تخبرنا بأن أثنين من كل ثلاثة أطفال رافقوا تلك الحملة لم يعودوا إلى منازلهم أبدا، ماتوا على الدرب أو بيعوا كرقيق في الشرق. وما أن وصلت أخبار الكارثة إلى ألمانيا حتى هجم الأهالي المنكوبين بموت أطفالهم على عائلة نيكولاس فسحلوا والده إلى الشوارع ثم شنقوه على شجرة وأحرقوا منزله. والجدير بالذكر أن فرنسا شهدت هي الأخرى حملة أطفال شبيهة بتلك التي حدثت في ألمانيا عام 1212، فبينما كان نيكولاس يجمع الأتباع ويشحذ الهمم في ألمانيا، كان هناك فتى آخر في شمال فرنسا يسير على نفس الدرب، هذا الفتى كان راعيا للأغنام في الثانية عشر من عمره أسمه ستيفان. وتماما مثل نيكولاس، فأن ستيفان زعم بأن السيد المسيح تجلى له وأمره باستعادة القدس سلميا. وقد حشد ستيفان قرابة الثلاثون ألف شخص لحملته معظمهم من الأطفال. وهذه المرة أيضا تكررت نفس المأساة، فالحملة الفرنسية انتهت إلى ذات المصير الذي انتهت أليه الحملة الألمانية. وبالعودة إلى حكايتنا، يرى العديد من الباحثين بأن حكاية عازف المزمار تتحدث في واقع الأمر عن أطفال هاملن الذين رافقوا نيكولاس في حملته الصليبية المأساوية، وأن شخصية عازف المزمار تشير وترمز إلى الفتى نيكولاس الذي غرر بالأطفال وأخذهم معه نحو المجهول. لكن إشكالية هذه النظرية تتمثل في التوقيت، فحملة الأطفال الصليبية حدثت عام 1212، في حين أن أحداث حكاية عازف المزمار تعود لسنة 1284. كما إن العديد من الباحثين يلقون بظلال كثيفة من الشك حول مصداقية المصادر التي تحدثت عن حملة الأطفال الصليبية، فهم يعتقدون بأن اسم الحملة هو مجرد مصطلح مجازي، وبأن أكثر من رافقوا تلك الحملة لم يكونوا في الحقيقة أطفالا وإنما رجال ونساء بالغين رافقوا أطفالهم على طول الدرب، فلا يعقل أن يدع الناس أطفالهم يذهبون بمفردهم في هكذا رحلة خطرة وقاسية من دون دليل ومعين. نظرية الهجرة أوربا القرن الثاني عشر كانت مكتظة بالسكان، وهناك من يعزو ظهور المجاعة والطاعون في القرن الثالث عشر إلى ذلك الاكتظاظ السكاني الذي لن تعرف أوربا له مثيلا مجددا حتى القرن التاسع عشر الميلادي. ومن المعروف بأن المناطق المكتظة بالسكان تعاني من معدلات عالية من البطالة والفقر، وغالبا ما يهاجر شبابها للبحث عن فرص جديدة في مدن ودول أخرى، وهذا هو بالضبط ما حدث في هاملن القرن الثاني عشر، حيث هاجر عدد كبير من شبابها نحو الشرق إلى بولندا وترانسلفانيا وأنشئوا مستعمرات جديدة عاشوا فيها مع عائلاتهم ولم يعودوا ثانية إلى موطنهم. ويرى البعض بأن رحيل هؤلاء الشباب هو بالضبط ما تشير أليه حكاية عازف المزمار، وأن عبارة (Children of Hamelin ) لا تعني حرفيا أطفال هاملن وإنما هي تسمية تطلق على جميع أبناء المدينة، فالناس في كل مكان درجوا على توصيف الأفراد المنتمين إلى قبائل ومدن ومناطق معينة بكلمة أبناء، فيقال مثلا بنو تميم، ويقال أيضا أبناء الصعيد وأبناء تونس العاصمة وأبناء سوريا .. الخ .. والمقصود بكلمة أبناء هنا ليس أطفال تلك المناطق بالتأكيد، بل هو وصف عام يطلق على جميع الذكور المنتمين إلى تلك المناطق بغض النظر عن أعمارهم. وهناك رأي آخر يذهب إلى أن أطفال هاملن المقصودين في الحكاية هم مجموعة من الأطفال اليتامى وغير الشرعيين والمشردين الذين تم بيعهم كرقيق للتجار القادمين من مناطق البلقان، وهذه العملية، أي بيع الأطفال غير المرغوب فيهم لم تكن أمرا غير مألوفا في أوربا تلك الأيام، بل كانت تجارة رابحة بسبب الطلب الكبير في أسواق الشرق على شراء هؤلاء الأطفال الشقر ذوي العيون الملونة، ولم يكونوا جميعهم من أسرى الحروب أو المأخوذين قسرا من أهاليهم ( كما في نظام الدوشيرمه العثماني الذي طبق لاحقا على العائلات المسيحية في البلقان) ، بل أن نسبة غير قليلة منهم كان يجري بيعهم من قبل عائلاتهم الفقيرة من أجل المال أو طمعا في أن يتمتع أبنائهم بالسلطة والجاه تحت رعاية السلطان، وكان هؤلاء الصغار يؤخذون في أعمار مبكرة لتتم تربيتهم وتنشئتهم وفق التقاليد الصارمة للمؤسسة العسكرية والصوفية، وحظي هؤلاء لاحقا بامتيازات ومناصب لم يحظى بها أبناء البلد الأصليين، فشكلوا صفوة الجيوش المملوكية والعثمانية، وأصبحوا عماد الطبقة النبيلة، وتوج العديد منهم كسلاطين وباشوات حكموا الشرق بيد من حديد لعدة قرون. ولعل من الجدير بالذكر هنا أن عدم ثقة السلطات الحاكمة بأبناء جلدتها واستعانتها بالأجانب هو تقليد ضارب في القدم سواء في الشرق أو الغرب، وأقدم مثال على ذلك في منطقتنا العربية هي استعانة الخلفاء العباسيين بالفرس والأتراك دونا عن العرب في الحكومة والجيش، وصولا إلى مرحلة أصبح فيها الغلمان الأتراك هم الحكام الفعليين لدولة الخلافة، وجرى خلع وقتل العديد من الخلفاء على يد هؤلاء. أما السبب وراء ركون الحكام في السابق إلى الأجانب دونا عن أبناء جلدتهم فيكمن في كون الأجنبي لا يشكل خطرا على السلطة الحاكمة كما هو الحال مع المواطن وأبن البلد، فالأجنبي يستميت دفاعا عن الدولة لأنها مصدر قوته وعزوته، هي عائلته وقبيلته التي يركن إليها في الشدائد ولا يكون له وجود من دونها، والأجنبي ليست له أحقاد ومشاكل سابقة مع الدولة، ولا يطمع في الاستيلاء على العرش والسلطان، وهو أكثر إطاعة للأوامر وأقل ميلا للجدل. تماما كما هو الحال في أيامنا هذه مع العمالة الأجنبية، فالكثيرين يفضلون العمال الأجانب على أبناء البلد لأن العامل الأجنبي يكون أكثر طاعة وقناعة وأكثر نشاطا وإنتاجا، ويمكن فصله بسهولة وأكل حقه بيسر، فهو غريب لا يملك من يدفع عنه الأذى ويسانده. نظرية العامل الإجرامي هناك من يعتقد بأن عازف المزمار كان شخصية حقيقة ذات ميول غلمانية (Pedophilia ). والغلمانية هي اشتهاء الأطفال الصغار جنسيا، وهي نوع من أنواع الشذوذ والاضطرابات الجنسية، فالمصاب بهذا النوع من الشذوذ يكون مولعا بالأطفال من الأولاد والبنات ممن هم دون الثالثة عشر من العمر. والغلمانية كفعل تتضمن تعرية الطفل والاستمناء على جسده أو اغتصابه جنسيا وهي عملية مؤلمة قد تؤدي أحيانا إلى النزف والموت. لكن لا يشترط وجود تماس جنسي مباشر مع الضحية لكي يوصف الشخص بالغلماني، فأحيانا مجرد تخيل الممارسة الجنسية مع الأطفال الصغار، أو الشعور بالاستثارة الجنسية لدى رؤيتهم ومراقبتهم، أو البحث عن صورهم العارية على الانترنيت، كل هذه أمور يمكن أن تندرج أيضا ضمن إطار مصطلح الغلمانية. وأسوء أنواع الغلمانية هو ذاك الذي يقترن بالسادية حيث يقوم المغتصب بتعذيب ضحيته للحصول على اللذة الجنسية وغالبا ما تنتهي العملية بقتل الضحية. ونظرية العامل الإجرامي تزعم بأن عازف المزمار كان قاتلا متسلسلا مصاب بالغلمانية أستغل عمله كعازف ومهرج فقام باستدراج بعض أطفال هاملن إلى الغابة المجاورة حيث اغتصبهم وقتلهم. نظرية الصراع الديني غالبا ما يقرن تاريخ أوربا بالمسيحية التي ضربت أطنابها في أرجاء القارة الأربعة منذ أن أتخذها الإمبراطور قسطنطين الأول دينا رسميا للإمبراطورية الرومانية في مطلع القرن الرابع الميلادي. لكن أوربا لم تكن دوما مسيحية، واللافت للنظر هو أن نسبة قليلة من الناس حتى من بين المتعلمين لديهم معلومات عن أوربا ما قبل المسيحية، أوربا الوثنية المشبعة بالخرافة والسحر وطقوس التضحية البشرية. أوربا البربرية حيث الصراع الدموي على الأرض والنفوذ بين العشرات من القبائل الجرمانية والاسكندنافية والسلافية والسلتية الخ. وقد أتخذ هذا الصراع منحى جديد ابتداء من القرن الخامس الميلادي بدخول البعد الديني أليه، حيث دارت رحى العديد من الحروب والمعارك الدينية الدموية ما بين الممالك والقبائل المسيحية والوثنية، واستمر هذا الصراع حتى القرن الثاني عشر الميلادي بدخول آخر القبائل الوثنية في شمال أوربا إلى المسيحية. ولهذا يرى بعض الباحثين بأن حكاية عازف المزمار هي في حقيقة الأمر تتحدث عن بعض صفحات ذلك الصراع الدامي، وأن ما جرى فعلا في هاملن هو عملية اختطاف جماعية لأطفال المدينة المسيحيين حيث اقتيدوا إلى الغابات المجاورة وتم التضحية بهم للآلهة من قبل الوثنين، أو تم ألقائهم في نهر فيسر. أين الحقيقة؟ برغم جميع النظريات فأن الغموض سيبقى يلف مصير أطفال هاملن وحقيقة ما جرى لهم في تلك الحقبة المظلمة من التاريخ، وهكذا هو التاريخ .. مليء بالغموض والألغاز والأسرار التي قد تطال حتى الأحداث التاريخية التي نحسبها من المسلمات والبديهيات، وهنا بالضبط تكمن جمالية التاريخ البشري وروعته، فهو متعدد الجوانب يدفعك دوما للتفكير والتساؤل والبحث، كالمتاهة التي فيها ألف باب، كلما فتحت بابا وجدت خلفه ألف باب أخرى. ونحن في هذه المقالة لم نكن ننوي سوى طرق باب واحد، فإذا بذلك الباب يقودنا إلى أبواب أخرى. فعذرا عزيزي القارئ على هذا التطويل والإسهاب.

الخميس، 12 نوفمبر 2020

نوفمبر 12, 2020

قصة المسخ المسكين فرانكنشتاين (Frankenstein )

 

من منا لم يشاهد شخصية فرانكنشتاين (Frankenstein ) في السينما أو على شاشة التلفاز، ذلك المسخ الضخم ذو السحنة الشاحبة والملامح الجامدة الذي تملئ الغرز والقطب وجهه وجسده كأنه دمية جمعت أجزاءها على عجل. مشيته وحركاته مميزة كأنه إنسان آلي، وهو شديد الخجل من شكله وهيئته، لذلك يفضل التواري في الأماكن المظلمة والمهجورة بعيدا عن أعين الناس الفضولية والمتطفلة.. أنه مسخ مخيف ومسكين في آن واحد، اخترعه شاب عبقري يدعى "فيكتور فرانكنشتاين" بعد أن لملم وجمع أجزاءه من جثث الموتى وبث فيه الحياة باستخدام الصواعق. لكن حين دبت الحياة أخيرا في المسخ، ندم فيكتور بشدة لما صنعت يداه، فقد شاهد فيه عملاقا بشعا ترتعد منه الفرائص فتركه وحيدا وهجره، ولهذا طغت على نفس ذلك المخلوق المنبوذ مشاعر ملئوها الكراهية والسخط والغضب من "خالقه" القاسي، ولم تلبث أن تحولت تلك المشاعر إلى انتقام فظيع سيودى في النهاية بحياة الاثنين .. المسخ وصانعه. شخصية فرانكنشتاين نالت قسطا وافرا من الشهرة منذ ظهورها لأول مرة في رواية حملت نفس العنوان نشرت في لندن عام 1818 وهي من تأليف شابة مغمورة في الثامنة عشر من عمرها تدعى ماري شيلي (Mary Shelley) حالفها الحظ وساعدها وشجعها زوجها الشاعر فحققت روايتها نجاحا وقبولا منقطع النظير وسرعان ما تلقفتها المسارح الأوربية وجسدتها لاحقا عشرات الأفلام السينمائية ومسلسلات التلفزيون. ولأن الناس تعلقوا بشخصية المسخ أكثر من أي شيء أخر في الرواية، لذلك أطلقوا عليه خطأ تسمية فرانكنشتاين، في حين أن هذا الاسم يعود في الحقيقة للمخترع الشاب الذي صنع المسخ. أما المسخ نفسه فلم تعطه ماري شيلي أسما معينا خلال روايتها وإنما أشارت إليه بصفات متعددة كـ "الوحش" و "المسخ" و "العفريت". حياة ماري شيلي نفسها لم تختلف كثيرا في بؤسها عن حياة المسخ الذي قدمته للعالم، إذ ماتت أمها الكاتبة والمدافعة عن الحريات النسائية "ماري ولستونكرافت" وهي لم تزل رضيعة بعمر 11 يوم فقط. ونشأت في كنف والدها الكاتب والفيلسوف ذو الآراء الحرة "وليم غودون" الذي تزوج لاحقا بجارته الأرملة التي على ما يبدو لم تكن على وفاق مع ماري وكانت تفضل عليها أطفالها من زوجها الراحل. الناحية الجيدة الوحيدة في طفولة ماري تجسدت في حرص والدها الشديد على تعليم وتثقيف أبنته على أحسن وجه. في سن المراهقة عشقت ماري شابا متزوجا هو الشاعر الرومانسي "بيرسي شيلي"، علاقة الاثنان كانت مرفوضة من قبل المجتمع الانجليزي المحافظ آنذاك، إلا أن ذلك لم يفت في عضد الحبيبين اللذان سافرا سرا إلى فرنسا واستمرا في علاقتهما حتى تكللت بالزواج أخيرا بعد انتحار زوجة بيرسي الأولى. الزوجان رزقا بأربعة أطفال لم يعش منهم سوى صبي واحد، وقد ترك موت الأطفال أثرا لا يمحى في نفس ماري. ثم حلت الطامة الكبرى عام 1822 بموت الزوج بيرسي غرقا أثناء رحلة بالقوارب. السنوات اللاحقة من حياة ماري كانت عبارة عن صراع مستمر مع الفقر والفاقة، والمؤلم حقا هو أنه برغم كونها كاتبة من الطراز الأول، ورغم شهرة روايتها التي طبقت الآفاق، ناهيك عن شهرة زوجها الراحل، إلا أن ماري لم تستطع أبدا أن تجد لنفسها مكانا محترما بين أفراد المجتمع المخملي الانجليزي، فقد نبذها ذلك الوسط البراق .. أو ربما هي لم تستطع مجاراة متطلباته بسبب فقرها المزمن فأنزوت وحيدة تشكو الزمن آهاتها. ماري لم تتزوج ثانية وظلت وفية لزوجها الراحل الذي قضت معظم ما تبقى من عمرها تجمع وتحقق قصائده وتهتم بنشرها، عاشت أيامها الأخيرة بسعادة مع أبنها الوحيد وزوجته، ووافتها المنية بسبب المرض عام 1851 عن ثلاث وخمسون عاما. فرانكنشتاين الحقيقي لسنوات طويلة تسأل الناس عن المصدر الذي استوحت ماري شيلي روايتها منه، البعض رأى في القصة بعدا دينيا وفلسفيا، فباعتقاد هؤلاء، يشير المسخ في واقع الأمر إلى الشيطان أو إبليس الذي تمرد على ربه وخالقه. أما ماري شيلي فقد زعمت بأنها استوحت شخصيات حكايتها من حلم شاهدته أثناء نومها. الأمر كله بدأ في يوم ماطر وبارد من أيام عام 1816، ماري شيلي كانت برفقة زوجها في عطلة بسويسرا وكانا في ذلك اليوم في ضيافة صديقهم النبيل والشاعر الانجليزي اللورد بايرون، كان مقررا أن يقضوا نهارهم في أحضان الطبيعة السويسرية الخلابة، لكن الطقس السيئ أجبرهم على البقاء حبيسي جدران قصر اللورد، ولتمضية الوقت وقتل الملل جلسوا جميعا قرب الموقد وراحوا يسلون أنفسهم بقراءة قصص الأشباح، وبوحي من تلك القصص أقترح اللورد بايرن أن يكتب كل منهم قصة رعب يؤلفها بأسلوبه الخاص. في بادئ الأمر لم تجد ماري شيلي ما تكتبه، لكن في تلك الليلة جاءها الإلهام أثناء نومها على شكل كابوس مرعب شاهدت خلاله شابا شاحب الوجه منكبا على طاولة ضخمة يجمع شتات ما بدا كأنه مسخ بشري غاية في البشاعة، ماري لاحظت بأن الحياة بدأت تدب شيئا فشيئا في جسد ذلك المسخ بواسطة مصدر طاقة ذو قوة خارقة .. كان مشهدا مخيفا أوحى لماري بفكرة روايتها الخالدة. لكن بعيدا عن قصة الكابوس المزعوم، يعتقد العديد من الباحثين اليوم بأن للقصة جذور حقيقية أبعد بكثير من كونها مجرد حلم أو طيف داعب خيال المؤلفة الشابة. فأسم فرانكنشتاين هو في الحقيقة لقب عائلة ألمانية نبيلة عريقة اشتهرت بقلعتها القديمة التي انتصبت أبراجها العالية لقرون طويلة بالقرب من مدينة دارمشتات الألمانية، ويرجح بعض الباحثين بأن السيدة شيلي وزوجها مروا بتلك القلعة القديمة وربما باتوا ليلتهم فيها أثناء رحلتهم إلى سويسرا. هناك داخل القلعة ربما سمعت ماري شيلي لأول مرة بحكاية العالم الغريب الأطوار يوهان كونراد ديبيل (Johann Konrad Dippel ) واطلعت على الحكايات العجيبة التي تداولها الناس حول تجاربه. كان شخصية مثيرة للجدل بكل معنى الكلمة، فقد ولد في قلعة فرانكنشتاين عام 1673 ودرس في شبابه علم اللاهوت والفلسفة والكيمياء .. وادعى النبوة لفترة من الزمن !. كان يذيل بحوثه وكتاباته بأسم يوهان كونراد دي فرانكنشتاين، وكان دائم الوقوع في المشاكل بسبب تصرفاته وآراءه العلمية والدينية الغريبة ، حبس مرة بتهمة التشبه بملك السويد! وأخرى بتهمة الهرطقة. يوهان ديبل كان مولعا بالكيمياء، ذلك العلم الذي أعتبره القدماء بحرا يزخر بالرموز والطلاسم الغامضة، وقد غاص يوهان في لجة ذلك البحر العاتي وخرج للعالم بإكسير زعم بأن له نفس الخواص السحرية لـ "أكسير الحياة"، أي أنه يطيل العمر ويجدد الشباب. وكانت طريقة صناعة ذلك السائل الخارق لا تقل غرابة عن خواصه العجيبة، فهو يتألف من أمور قد لا يتخيلها العقل .. دماء .. أمعاء .. عظام وأجزاء من جيف الحيوانات الميتة مزجت بعناية داخل وعاء معدني كبير أشبه بذلك الذي كانت ساحرات العصور الوسطى تستخدمه في تحضير وصفاتهن، ثم أضيف إلى ذلك المزيج الغريب مقادير معينة من المواد الكيميائية. المثير للدهشة حقا هو نجاح يوهان في تسويق سائله الخارق ذاك، إذ باع بعضا منه إلى نبيل ألماني عجوز بعد أن وعده وأغراه بعمر مديد يصل إلى 135 عام. لكن العجوز في الحقيقة لم يعش سوى لسنوات قليلة رغم مثابرته على شرب ذلك الترياق السحري كل صباح!. إضافة إلى إكسيره العجيب، هناك قصص عن أمور رهيبة أقترفها يوهان أثناء مكوثه في قلعة فرانكنشتاين، فالرجل على ما يبدو كان عالما مخبولا كأولئك العلماء منفوشي الشعر الذين نشاهدهم أحيانا في الأفلام. كان اهتمامه منصبا على الكيمياء وعلم التشريح. وقد تحدث السكان القرويين القاطنين بالقرب من القلعة عن قيامه بتجارب يشيب لها الولدان .. تجارب أستخدم فيها الجثث والجيف البشرية، وحاول في إحداها نقل الروح من جثة إلى أخرى! كما حاول إعادة الحياة لبعض الموتى عن طريق تمرير التيار الكهربائي في أجسادهم. ولأن مصادر الكهرباء المعروفة اليوم لم تكن متاحة في ذلك الزمن الغابر، لذلك قام يوهان بتشييد برج ضخم شاهق لاقتناص شحنات الصواعق الكهربائية .. ولك أن تتخيل عزيزي القارئ ذلك العالم المجنون يرقص طربا وسط جثث الموتى تحيط به قواريره الملونة الغريبة وقدوره التي تغلي بمواد لا يعلم كنهها سوى الله .. ولك أن تتخيله وهو يضحك ملئ شدقيه مبتهجا بقدوم العواصف الرعدية الهائجة التي ستمنحه صواعقها الطاقة اللازمة لأجراء تجاربه المجنونة .. لكن هل كانت تجاربه مجنونة حقا ؟! أم كان الرجل نابغة عبقري سبق عصره بقرون! .. قد لا يعلم ذلك سوى الله .. فالرجل انتهى به الأمر ميتا في ظروف غامضة، ويقال بأنه نجح قبل موته في صناعة كف بشرية بإمكانها التحرك من تلقاء نفسها!. على العموم، تجارب يوهان لم يكتب لها الاستمرار طويلا، فالناس القرويون البسطاء هالهم ما سمعوه عن تجاربه في القلعة، ارتعدوا خوفا وتملكهم الغضب من الشرور الشيطانية التي كانت تقترف بالقرب من أكواخهم الخشبية، وفي نهاية الأمر تحول غضبهم إلى ثورة عارمة أجبرت العالم الغريب الأطوار على مغادرة مختبره الذي بدا للثوار أقرب إلى مسلخ بشري منه إلى مختبر علمي .. يوهان كونراد ديبل عثر عليه ميتا .. مسموما على الأرجح .. في قلعة ويتنغستاين في يوم ما من عام 1734. الكهرباء وإحياء الموتى! الباحثين هذه الأيام يجدون صعوبة كبيرة في فصل الخرافة عن الحقيقة بشأن تجارب العلماء القدماء، ومنهم يوهان كونراد ديبل، فالكهرباء في زمانه كانت لاتزال اكتشافا حديثا يحوطه الكثير من الغموض، وخلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر شاعت بين العامة الكثير من الخرافات بشأن هذه الطاقة الجديدة بسبب الجهل والتخلف الذي كان متفشيا كالوباء آنذاك. فعلى سبيل المثال، أعتقد الكثيرون في ذلك العصر بأن الكهرباء تستطيع إعادة الحياة إلى الموتى!. وقد لعب الفهم الخاطئ لسلوك المواد والأجسام التي يمر خلالها التيار الكهربائي دورا كبير في تعزيز هذه الخرافات، ففي عام 1780 قام العالم الايطالي "ليوجي جالفاني" بتجارب مرر خلالها تيارا كهربائيا داخل جسد ضفدعة ميتة ولاحظ حدوث حركة وارتجاف في أطرافها عند صعقها بالكهرباء. ثم قام أبن أخته ويدعى جيوفاني إلديني بتجارب من نفس النوع على موتى البشر. إحدى تلك التجارب المثيرة للجدل نفذها في ساحة عامة من ساحات لندن عام 1791 وجعل جمهور المشاهدين خلالها يصابون بالذهول والحيرة. جيوفاني قام بربط أسلاكه الكهربائية إلى جسد جثة بشرية تعود لمجرم تم إعدامه شنقا في صبيحة ذلك اليوم، ثم مرر تيارا كهربائيا مقداره 120 فولت إلى ذلك الجسد الميت، ما حدث بعد ذلك جعل صرخات الرعب والتعجب ترتفع من كل حدب وصوب حتى أنه أغشي على بعض النساء، فالجثة الهامدة أنقبضت ملامحها كما لو أنها كانت تتألم، ويقال بأنها فتحت عينها وراحت تحدق إلى جيوفاني كأنما أرادت معرفة شخص معذبها، وحين زاد جيوفاني من شدة التيار الكهربائي أخذت الجثة ترتعش وتتخبط حتى ظن الجمهور بأنها ستقوم عائدة إلى الحياة. طبعا تجربة جيوفاني لم يكن فيها ما يثير العجب، لكن كما أسلفنا، جهل عامة الناس .. بل وحتى العلماء آنذاك .. بسلوك الأجسام الموصلة التي يمر خلالها التيار الكهربائي هو الذي جعلهم يتصورون بأن للكهرباء قدرات خارقة، بل آمن العديد منهم بأن شحنة كهربائية فائقة بإمكانها حقا إعادة الحياة إلى الموتى!. تجربة جيوفاني جرت قبل سنوات قليلة فقط من ولادة ماري شيلي، ولاشك في أن قصة تلك التجربة المثيرة وما رافقها من إشاعات حول قدرات الكهرباء الخرافية كان صداها لازال يتردد في الأوساط اللندنية أثناء طفولة ومراهقة ماري، وعليه فمن المرجح جدا بأن تكون المؤلفة الشابة قد استوحت أحداث روايتها من تلك الاعتقادات الخرافية التي كانت رائجة في عصرها ثم مزجتها بإبداع مع حكاية العالم الألماني غريب الأطوار لتخرج إلى العالم برواية خلبت لباب القراء والمشاهدين لعدة أجيال.




نوفمبر 12, 2020

قصة السفينة الشبح - ماري سليست (Mary Celeste )

 ماري سليست (Mary Celeste ) هي سفينة شراعية ضخمة تبلغ حمولتها 282 طن , تم بنائها عام 1861 على سواحل كندا و سجلت كسفينة تجارية هناك , كانت سفينة شراعية جميلة و حديثة في زمانها , لكنها كانت منحوسة , فخلال رحلتها البحرية الأولى , لفظ قبطانها الكابتن روبرت ماكلاي وهو ابن مالك السفينة , أنفاسه الأخيرة على سطحها نتيجة إصابته بمرض ذات الرئة , و قد لازمها النحس في رحلتها اللاحقة , إذ اصطدمت بقارب صيد , و في أول رحلة لها عبر الأطلسي اصطدمت بسفينة داخل القناة الانكليزية , ثم أبحرت لعدة سنوات كسفينة لنقل البضائع من و إلى أمريكا الجنوبية , و في إحدى رحلاتها تلك تعرضت إلى عاصفة قوية فجنحت عن مسارها و أصيبت بأضرار, و في عام 1868 بيعت إلى شخص أمريكي سجلها في نيويورك تحت اسم ماري سليست ثم ما لبث ان باعها بدوره إلى مجموعة من الشركاء كان احدهم هو بنيامين بريدج الذي أصبح قبطانها و أبحر بها في عدة رحلات تجارية عبر الأطلسي. في 5 تشرين الثاني / نوفمبر 1872 أبحرت ماري سليست من نيويورك , كانت حمولتها تتكون من 1701 برميل من الكحول الخام المرسل إلى ايطاليا , و كان طاقمها يتألف من عشرة أشخاص هم القبطان بنيامين بريدج و زوجته سارة التي طالما رافقته في رحلاته البحرية , و ابنتهما صوفيا ذات العامين , أما البحارة فكانوا أربعة ألمان و دنماركي و أمريكيان هم الطباخ و مساعد القبطان و جميعهم من البحارة ذوي الخبرة و المشهود لهم بحسن السلوك. بعد شهر كامل على إبحار ماري سليست , أي في 5 كانون الأول / ديسمبر , كانت سفينة أمريكية أخرى اسمها ديا كراتيا تمخر عباب المحيط باتجاه أوربا تحت إمرة القبطان ديفيد مورهاوس و هو صديق قديم لبنيامين بريدج , و لم يكن يتوقع أبدا ان يلتقي بالسفينة ماري سليست في عرض المحيط لأنها كانت قد انطلقت في رحلتها قبل ثمانية أيام على إبحاره , لكن بينما كان القبطان مورهاوس يبحر بسفينته في المحيط على بعد 600 ميل إلى الغرب من البرتغال , لمح بحارته سفينة مجهولة على مسافة حوالي الخمسة كيلومترات من سفينتهم , و عندما نظر القبطان مورهاوس إليها بواسطة منظاره المقرب شعر بشيء غير طبيعي في طريقة إبحارها , كان شراعها في وضعية غير صحيحة و كانت تتأرجح في حركتها و لم يظهر أي شخص على سطحها , لذلك أمر القبطان مورهاوس بحارته بالتوجه نحو السفينة المجهولة , و عندما اقتربوا منها بدرجة كافية اكتشف القبطان مورهاوس ان السفينة المجهولة لم تكن سوى ماري سليست , سفينة صديقه القبطان بينيامين بريدج , التي كان من المفروض أنها تبحر الآن قرب مضيق جبل طارق. أدرك القبطان مورهاوس أن السفينة ماري سليست قد تعرضت لمشكلة ما لذلك قرر إرسال احد بحارته ليصعد على متنها و يعرف ماذا حل بها , و كان هذا البحار هو اوليفر ديفيو الذي توجه نحو ماري سليست بالقارب ثم تسلق إلى سطحها , كان أول عمل قام به هو التحقق من مضخات السفينة فوجد ان احدها مازال يعمل أما الاثنان الآخران فكانا مفقودان , و خلال تفتيشه للسفينة لم يعثر على أي شخص , كان الجميع قد اختفوا , كما ان قارب الإنقاذ الوحيد في السفينة كان قد اختفى أيضا , و في قمرة القيادة كانت الساعة متوقفة و البوصلة محطمة و كانت معظم الأدوات الملاحية الصغيرة التي تستعمل لتحديد موقع السفينة قد اختفت كما ان جميع أوراق السفينة كانت مفقودة باستثناء دفتر القبطان الذي يسجل فيه ملاحظات الرحلة و أخر ملاحظة كتبت فيه كانت تعود إلى يوم 25 تشرين الثاني / نوفمبر أي قبل عشرة أيام , بقية غرف و قمرات السفينة كانت بحالة جيدة كما كانت أغراض الطاقم الشخصية متروكة في مكانها و ملابسهم مرتبة و يابسة , كذلك كانت مئونة السفينة من الطعام و المياه سليمة و في حالة جيدة مما يدل على ان طاقم السفينة كانوا قد تركوها على عجل دون ان يتاح لهم أخذ أي شيء منها معهم , و في المخزن الرئيسي للسفينة كانت الحمولة من براميل الكحول سليمة أيضا و لم تمس , و لدى معاينته للجزء الخلفي من السفينة اكتشف اوليفر حبلا قويا و طويلا كان قد تم ربطه بإحكام إلى مؤخرة السفينة أما طرفه الأخر فكان يتدلى خلفها سابحا في مياه المحيط لمسافة طويلة , و بصورة عامة لم تكن السفينة ماري سليست تواجه خطر الغرق رغم أنها كانت مبللة و رطبة و يغطي الماء قاعها بارتفاع متر تقريبا. عندما عاد البحار اوليفر ديفيو الى سفينة ديا كراتيا و قدم تقريره للقبطان مورهاوس لم يصدق هذا الأخير ان صديقه القبطان بنيامين بريدج ذو الخبرة البحرية الطويلة يمكن ان يترك سفينته في عرض المحيط بهذه الحالة , لذلك أرسل بحارة آخرين ليتأكدوا مما رواه اوليفر ديفيو , و قد عاد هؤلاء بعد قرابة الساعتين ليؤكدوا نفس الكلام كما اخبروا القبطان بأنهم لم يجدوا أي آثار للعنف على سطح السفينة و كانت جميع محتوياتها سليمة , و هو الأمر الذي يلغي تماما أي فرضية في تعرضها للقرصنة. في الأيام التالية قام عدد من بحارة ديا كراتيا بقيادة السفينة ماري سليست حتى أوصلوها إلى مستعمرة جبل طارق الانكليزية , و فور وصولها إلى الميناء قامت وزارة أعالي البحار البريطانية بتشكيل لجنة تحقيق لكشف ملابسات اختفاء طاقمها , و قد خلصت هذه اللجنة بعد الفحص و التمحيص و المعاينة الدقيقة إلى انه لا توجد هناك أي آثار للعنف تدل على تعرض السفينة للقرصنة كما ان حمولتها و أغراض طاقمها كانت سليمة لم تمس , أما اختفاء الركاب فلم تجد اللجنة أي تفسير له , و قد قام السفير الأمريكي بزيارة السفينة بنفسه لأنها كانت تحمل رعايا أمريكان و اخطر حكومته عن الحادث فقامت وزارة الخارجية الأمريكية ببعث برقيات إلى جميع سفاراتها حول العالم لأجل الحصول على أي معلومات تدل على مصير طاقم السفينة , لكن بدون جدوى فركاب ماري سليست كانوا قد اختفوا إلى الأبد. بالتدريج جذبت حادثة ماري سليست انتباه الصحافة , و بما ان القصص الغريبة و حكايات الأشباح كانت تستهوي القراء في ذلك الزمان , لذلك تم فبركة العديد من الأكاذيب و إضافتها إلى الأحداث الحقيقية , و ربما تكون كتابات السير آرثر كونان دولي , مؤلف قصص شارلوك هولمز , هي الأكثر مساهمة في إضفاء صبغة من الوهم و الخيال على الوقائع الحقيقية , فقد ذكر في إحدى قصصه التي تناولت الحادثة بأن بحارة السفينة ديا كراتيا الذين صعدوا إلى سطح ماري سليست لأول مرة وجدوا الطعام موضوعا على المائدة و كان لا يزال طازجا كأنه اخرج من القدر للتو كما كانت القهوة المسكوبة في الأكواب لا تزال حارة يتصاعد منها البخار , و قد تكون اهتمامات السير كونان دولي الروحانية التي امن بها بشدة بعد تقدمه في السن و وفاة زوجته و ابنه الشاب , قد ساهمت بشكل كبير في طريقة تناوله لموضوع السفينة ماري سليست , لكن الحقيقة كانت شيئا آخر , فبحارة ديا كراتيا أكدوا مرارا بأنهم لم يجدوا أي طعام مطبوخ على سطح السفينة و لم تكن هناك أي قهوة أو مادة سائلة أخرى مسكوبة في الأكواب , فمطبخ ماري سليست كانت تسوده الفوضى بسبب حركة السفينة المتأرجحة. خلال ما يناهز القرن و النصف من الزمان , لم يعثر على أي اثر لطاقم السفينة ماري سليست و لم يسمع عنهم مجددا حتى يومنا هذا , إذن ماذا حل بهم ؟ و لماذا اختفوا ؟ هل حقا اختطفتهم مخلوقات فضائية أم ابتلعتهم كائنات بحرية مجهولة خرجت من قاع المحيط أم دخلوا بعدا زمنيا أخر ؟ كل هذه السيناريوهات طرحها عشاق قصص ما وراء الطبيعة , لكن مع الأسف لا يوجد أي إثبات لها , و في المقابل هناك العديد من النظريات و الفرضيات المنطقية التي حاولت تفسير ما حدث , أول هذه النظريات كانت تعتقد ببساطة بأن السفينة تعرضت للقرصنة , لكن بقاء أغراض الطاقم و حمولة السفينة سليمة لم تمس تلغي نظرية القرصنة تماما , نظرية أخرى اتهمت طاقم سفينة ديا كراتيا بأنهم هم من دبروا الحادث لغرض الحصول على جائزة الإنقاذ التي كان القانون يمنحها على شكل نسبة من قيمة السفينة التي يتم إنقاذها , لكن هذه النظرية لا تصمد إمام التحليل المنطقي , فقبطاني السفينتين كانا صديقين قديمين و تربطهما علاقات عائلية وطيدة كما ان ماري سليست كانت قد أبحرت قبل ثمانية أيام من إبحار ديا كراتيا فكيف تمكنت هذه الأخيرة من اللحاق بها , ثم لماذا لم يعثر على أي آثار للعنف داخل ماري سليست , هل يعقل ان يكون طاقمها قد تعرضوا للقتل دون ان يبدي أي شخص منهم أي مقاومة؟. و هناك نظرية أخرى تعتقد ان الحادثة هي مسرحية تم تدبيرها من قبل القبطان روبرت بريدج من اجل الحصول على مبلغ التأمين على السفينة , لكن هذه النظرية لا تصمد أمام حقيقة ان مبلغ التأمين على السفينة و حمولتها كان ضئيلا كما ان السفينة و حمولتها كانت سليمة لم تمس , أضف إلى هذا ان القبطان روبرت بريدج كان مجرد شريك يملك حصة في السفينة و ليس مالكها الوحيد. هناك نظرية أخرى لاقت رواجا , و هي ان ماري سليست تعرضت لعاصفة هوجاء فخاف القبطان بينيامين بريدج ان تغرق سفينته و أمر الطاقم بإنزال قارب النجاة ثم أبحر مبتعدا , و مما يدعم هذه النظرية هو ان السفينة كان مبللة ساعة اكتشافها و كان الماء يملئ جوفها بارتفاع متر تقريبا كما كانت اثنتان من مضخاتها قد اختفت , و لكن من ناحية أخرى فأن مستوى الماء في السفينة لم يكن يهدد السفينة بالغرق , صحيح انه كان أكثر من المعدل الطبيعي لكن قبطان ذو خبرة طويلة مثل بينيامين بريدج كان يعلم تماما ان هذه الكمية لم تكن تهدد سلامة السفينة و أنها كانت لا تزال صالحة للإبحار , ثم ان تقارير الأرصاد لم تذكر حدوث أي عاصفة خلال الفترة التي أبحرت فيها ماري سليست. و بالإضافة إلى نظرية العاصفة هناك نظريات مشابهة تفترض تعرض السفينة لزلزال أو إعصار أو تسونامي بحري. فيما ذهبت نظرية أخرى إلى الاعتقاد بأن بحارة ماري سليست تمردوا على القبطان , ربما تحت تأثير الخمر , فقتلوه هو و زوجته و طفلته و فروا الى جهة مجهولة , لكن مشكلة هذه النظرية هي ان بحارة ماري سليست كانوا من الأشخاص المعروفين و المشهود لهم بحسن السلوك , كما انه على فرض صحة هذه النظرية فلماذا تركوا السفينة وأغراضهم و حاجياتهم الشخصية في عرض المحيط. هناك نظرية أخرى هي الأكثر قبولا , و تزعم هذه النظرية ان القبطان بنيامين بريدج لم يكن مرتاحا لنقل حمولة كبيرة من الكحول بسبب خوفه من حدوث تسرب يؤدي إلى انفجار مدمر , و هو بالضبط ما تعتقد النظرية حدوثه , إذ عثر الحمالون على تسعة براميل فارغة عند إنزالهم لحمولة السفينة , و جميع البراميل الفارغة كانت مصنوعة من خشب البلوط الأحمر فيما كانت بقية البراميل مصنوعة من خشب البلوط الأبيض الأكثر قوة و تماسكا , و قد يكون انتشار رائحة الكحول المتسرب من البراميل قد أصاب القبطان بالذعر فشعر ان السفينة على وشك الانفجار لذلك قام على عجل بجمع بعض الأدوات و الأوراق من قمرة القيادة ثم أمر البحارة بإنزال قارب النجاة و صعد الجميع اليه بسرعة , لكن القبطان المتمرس لم ينس ربط قارب النجاة الصغير إلى مؤخرة السفينة بواسطة حبل الشراع الطويل و ذلك للعودة إليها في حالة زوال الخطر و عدم حدوث انفجار , لكن لسوء الحظ يبدو ان القبطان و بحارته و لسبب ما افلتوا الحبل الذي يربطهم بالسفينة فتاهوا في المحيط الواسع حتى ماتوا جوعا و عطشا او ربما انقلب قاربهم الصغير و ابتلعتهم الأمواج. و رغم منطقية هذه النظرية إلا أنها لم تنجو من الانتقادات , فعلى سبيل المثال لم يذكر أي شخص ممن صعدوا إلى ماري سليست بعد الحادث بأنه شم أي رائحة كحول داخل مخزن السفينة , و بالنسبة للبراميل التسعة الفارغة فهناك احتمال أن يكون شخص ما قد قام بسرقة محتوياتها أثناء توقف السفينة لعدة شهور في مستعمرة جبل طارق أو أثناء نقل الحمولة إلى ايطاليا فيما بعد تحت إمرة قبطان و بحارة جدد. في الختام قد تسأل عزيزي القارئ عن مصير سفينة ماري سليست بعد الحادث و هل فارقها النحس الذي رافقها لسنوات طويلة ؟ و الجواب هو كلا , فالسفينة على ما يبدو ملعونة و منحوسة منذ أول يوم طفت فيه فوق الماء , ففي رحلة العودة إلى أمريكا بعد الحادثة تعرضت السفينة إلى عاصفة مات على أثرها والد مالك السفينة (صاحب الحصة الأكبر في السفينة) لذلك قرر بيعها و التخلص منها بأي ثمن , و قد باعها بالفعل و بأقل من سعرها الحقيقي بكثير , و في الثلاثة عشر سنة القادمة بيعت ماري سليست من شخص لأخر سبعة عشر مرة , و يبدو ان مالكها الأخير , القبطان جي سي باركر , كان قد اشتراها ليغرقها و يحصل على مال التأمين , و قد نفذ خطته في البحر الكاريبي بالقرب من سواحل هاييتي , إذ حاول إغراقها عن طريق تحميلها بأكثر من طاقتها , لكن المصيبة هي ان ماري سليست رفضت ان تغرق رغم كل محاولات السيد باركر , و في النهاية , و بعد ان فقد أعصابه قرر حرقها , لكنها رفضت ان تغرق أيضا فتركها السيد باركر و هو يلعن اليوم الذي رآها فيه , ثم تقدم إلى شركة التأمين مطالبا بالتعويض و مدعيا غرق السفينة إلا ان الشركة اكتشفت خدعته فالقي به في السجن ثم مات في زنزانته في ظروف غامضة قبل انعقاد محاكمته!! , و بعد الموت المأساوي لمالكها الأخير ظلت ماري سليست قابعة في مكانها لسنوات طويلة , إذ لم يعد احد يرغب بها فتركت حتى تفسخت بالتدريج و ابتلعتها الأمواج أخيرا.