صحراء الربع الخالي (Rub al-Khali Desert ) هي اكبر صحراء رملية في العالم (هل تعلم عزيزي القارئ أن اكبر صحارى العالم هي القطب المتجمد الجنوبي!! لا تتعجب , فلا يشترط في الصحراء أن تكون حارة لكنها يجب أن تكون مقفرة و ليس للقطب الجنوبي منافس في هذا المجال , أما اكبر الصحارى الحارة فهي الصحراء الكبرى في شمال أفريقيا و لكن صحراء الربع الخالي هي الأكبر من حيث حجم الرمال الموجودة فيها.) تقع في الجزء الجنوبي الغربي من شبه الجزيرة العربية و تغطي مساحة 650000 كم مربع أي ما يعادل مساحة فرنسا و بلجيكا و هولندا مجتمعة , و تتقاسم رقعة هذه الصحراء أربعة دول هي المملكة العربية السعودية التي يقع القسم الأكبر من الصحراء داخل حدودها و الإمارات العربية المتحدة و سلطنة عمان و الجمهورية اليمنية , و قد سميت هذه الصحراء بالربع الخالي لخلوها من الحياة تقريبا فهي من أكثر بقاع الأرض قسوة من حيث الظروف المناخية إذ تبلغ درجة الحرارة في الصيف أكثر من 55 درجة مئوية و تغطيها كثبان رملية يصل ارتفاع بعضها إلى أكثر من 200 متر , الشكل الوحيد للحياة في هذه الصحراء يتمثل في بعض النباتات و العناكب و الطيور و القوارض الصغيرة , أما بالنسبة للإنسان فلا توجد سوى بعض القبائل البدوية التي تعيش على أطراف الصحراء و تتحاشى التوغل داخلها. ظلت أرجاء هذه الصحراء مجهولة لقرون طويلة تدور حولها الأساطير و الخرافات و لا يجرؤ احد على اقتحام بواباتها الجهنمية , لكن في عام 1932 قام الانكليزي برترام توماس بأول رحلة موثقة لعبور الصحراء قام خلالها باكتشاف بعض أرجائها و دراسة نباتاتها و المخلوقات الصغيرة التي تعيش فيها , و خلال هذه الرحلة سمع توماس لأول مرة بقصة " عبار " المدينة الضائعة أثناء ضيافته في خيم البدو الساكنين في أطراف الصحراء , و مع أن برترام ذكر هذه القصة في كتابه حول الصحراء إلا انه على الأرجح لم يأخذها على محمل الجد , لكن هذه القصة أثارت الحماسة و الطمع في نفس رجل انكليزي اخر هو عميل المخابرات البريطانية جون فليبي الذي قام بعدة رحلات استكشافية للبحث عن "عبار" منذ عام 1932 , و لسوء حظ فلبي او الشيخ عبد الله كما كان يطلق على نفسه فأنه لم يجد أي اثر للمدينة الضائعة لكنه عوضا عن ذلك اكتشف أمرا مهما , فبين الكثبان الرملية شاهد آثار طبقات جيرية بيضاء بدت كما لو انها ترسبات مسطحات مائية قديمة و اكتشف بقايا عظمية لحيوانات من بينها أسنان لحيوان فرس النهر و هو أمر أثار استغرابه , فماذا تفعل أفراس النهر التي تعيش في المياه و قربها في صحراء الربع الخالي القاحلة ؟ لم يكن لهذا السؤال المحير سوى جواب واحد و هو ان هذه الطبقات الجيرية البيضاء ما هي إلا بقايا لبحيرات مائية كانت موجودة في الصحراء في عصور سحيقة القدم , و قد اكد هذا الاستنتاج الكثير من العلماء و الجيولوجيين الذين درسوا المنطقة خلال العقود التالية , كما ان اكتشاف كميات هائلة من النفط وسط الصحراء دعمت هذه الفرضية , فالنفط يتكون من بقايا المواد العضوية المدفونة تحت الأرض و هذا يؤكد غنى صحراء الربع الخالي بالحياة النباتية و الحيوانية في العصور القديمة. احدث النظريات حول تاريخ الربع الخالي تؤكد ان المنطقة مرت بفترتين تميزتا بدرجات حرارة معتدلة و تزايد نسبة هطول الأمطار مما أدى إلى ازدهار الحياة النباتية و الحيوانية , الفترة الأولى استمرت من 37000 الى 17000 ألف سنة ماضية و الفترة الثانية استمرت من 10000 الى 5000 سنة ماضية , أي ان الجفاف الكبير حدث في حدود عام 3000 قبل الميلاد , و لو صدقت هذه النظرية فأنها ستحل لغزا تاريخيا كبيرا حول هجرة الأقوام السامية , فمع بداية الألف الثالث قبل الميلاد حدثت هجرة بشرية كبيرة من الجزيرة العربية تمثلت في الأقوام الاكدية و الامورية التي توجهت شمالا نحو سوريا و العراق , و نحن هنا لسنا بصدد مناقشة الأحداث التاريخية التي صاحبت هذه الهجرات لكن ما يهمنا في الموضوع هو التساؤل عن السبب الذي دفع الى هجرة كل هذه الجموع البشرية الضخمة فجأة و في وقت واحد و الجواب يكمن بدون شك في الطقس و المناخ الذي تبدل بشكل كبير منذ خمسة ألاف سنة , فتحولت الأراضي الخضراء التي كانت أشبه ما تكون بغابات الهند المطرية و التي كانت تغطي ارض الجزيرة العربية الى صحاري قاحلة اضطرت بسببها نسبة كبيرة من السكان الى الهجرة نحو الشمال , و ربما لم يتبقى من حياتهم في شبه الجزيرة العربية سوى ذكريات تداولها العرب على شكل قصص حول القبائل العربية المنقرضة او ما يعرف بالعرب البائدة (العرب البائدة هم أقوام و قبائل قديمة اندثرت و انقرضت بعد ان كانت تشكل السكان الأصليين للجزيرة العربية و من أشهر هذه الشعوب الذي ذكرها النسابون و المؤرخون العرب هم عاد وثمود والعماليق وجرهم وطسم وجديس و أميم و عبيل و وبار ، و قد انقرضت جميعها قبل الإسلام بزمن طويل و من نسل امرأة من جرهم تزوجها النبي إسماعيل (سرياني) ولد عدنان الذي تنتسب له اغلب قبائل العرب و شعوبها اليوم (العرب المستعربة).) , و مهما حاول علماء التاريخ الغربيين التدليس حول أصل الأقوام السامية الا ان الفرضية المنطقية الوحيدة هي انهم هاجروا من جنوب الجزيرة العربية فلا يعقل ان يكونوا أتوا من مصر عبر سيناء فالفراعنة كانوا حاميين و لم يكونوا ساميين (حول أصل الفراعنة او المصريين القدماء هناك لغط و جدل تاريخي مستمر منذ فترة طويلة و هو ليس محل للبحث في هذه العجالة , لكن للتوضيح ينبغي ان نذكر ان الفراعنة و الامازيغ (البربر) هم من الجنس الأبيض أي أنهم ليسوا أفارقة لذلك فالرأي الغالب هو أنهم يرجعون في أصولهم إلى هجرات قديمة دخلت الى مصر عبر سيناء قبل أكثر من عشرة ألاف سنة , مع التأكيد مرة أخرى بأن هذا الرأي ليس قاطعا و لا مؤكدا و ان الهجرات و الغزوات المستمرة من قبل أمم و شعوب مختلفة احتلت مصر على مر العصور قد أثرت على تركيبتها السكانية بشدة حالها في ذلك حال العراق و الشام و شمال أفريقيا.) , و لا يعقل ان يكونوا اتوا من جهة الشرق او الشمال أي إيران و تركيا فهذه المناطق كانت تسكنها قبائل و شعوب هندو – أوربية , و لا يبقى الا خيار الجنوب او أن يكونوا أتوا من كوكب أخر !! و إحدى أشهر القبائل العربية المنقرضة هي عاد و التي ذكرها القرآن الكريم : فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ {15} فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ لِّنُذِيقَهُم عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنصَرُونَ {16} سورة فصلت عاد كانت مساكنهم في الجهة الجنوبية من الربع الخالي , اي شمال حضرموت , و قد كانوا في غنى و ثراء فاحش , و هذه ليست أسطورة فالثروة لم تهبط عليهم من السماء و لكن بسبب تحكمهم بتجارة اللبان العربي (العلكة) التي كانوا يصدرونها الى الشام و مصر عبر طرق تجارية كانت تمر في صحراء الربع الخالي , و كانت لهم عدة مدن كبيرة ربما تكون أشهرها هي "عبار" او ارم ذات العماد "ذات الألف عمود" و قد ورد ذكرها في الكتابات التاريخية القديمة في اليمن و بعض الكتب القديمة للمؤرخين الإغريق و هو ما يؤكد صحة وجودها , و قد اختفى قوم عاد من على وجه السطيحة فجأة في حوالي القرن الرابع قبل الميلاد و اختفت مدنهم المزدهرة معهم و لم يتبقى منهم سوى قصص أسطورية تناقلتها الألسن اعتبرها علماء التاريخ مجرد خرافات لا أساس من الصحة لها , لكن ما حدث في ثمانينيات القرن المنصرم جعل هذه الخرافات تتحول الى حقيقة ماثلة للعيان , فقد رصدت الأقمار الصناعية طرق القوافل القديمة التي كانت تمر عبر الربع الخالي باتجاه الشمال , و عندما تتبع العلماء مسير هذا الطريق المؤدي من الجنوب الى سلطنة عمان وصلوا الى واحة صغيرة و بالقرب منها شاهدوا بقايا حصن قديم , في البداية ظنوا ان الحصن حديث البناء يعود الى عدة قرون خلت , لكن عندما بدءوا ينقبون في الموقع اخذوا يكتشفون أواني و جرار فخارية إغريقية و رومانية و فرعونية تعود الى ألاف السنين , و بدئت تنتابهم الحيرة , هل اكتشفوا "عبار" المدينة الضائعة ؟ كانت جدران الحصن سميكة و بارتفاع ثلاثة أمتار مع ثمانية أبراج ضخمة للمراقبة , و يبدو ان الحصن او المدينة الصغيرة لاقت نهاية مأساوية في زمن ما بعد ميلاد المسيح بقرن او قرنين , لقد خسفت الأرض بها , اذ يبدو انها بنيت فوق طبقة صخرية كلسيه تغطي تحتها كهف مائي ضخم كان السكان و القوافل تستعمل مياهه للشرب , لكن حدث ان جف او قل منسوب المياه في هذا الخزان المائي الطبيعي مما أدى الى ان تخسف الأرض بالحصن على حين غرة , و رغم أهمية هذا الاكتشاف الا ان اغلب العلماء اليوم لا يعتقدون بأن هذا الحصن هو بقايا مدينة "عبار" او "إرم ذات العماد" , بل يذهبون الى انه كان مجرد استراحة للقوافل أثناء مرورها بالصحراء , و ان ارض شعب عاد كانت تحتوي على العديد من الحصون و المدن , شأنها في ذلك شأن جميع الحضارات العظيمة , و ان اغلب هذه المدن العظيمة لازالت قابعة تحت أطنان من رمال الصحراء بانتظار من ينتشلها من هناك و لا يعلم سوى الله ما تخبئه من كنوز و أسرار (ينبغي التنويه ان المملكة العربية السعودية نظمت عدة رحلات استكشافية للصحراء في السنوات الأخيرة و قد تم اكتشاف أنواع جديدة من النباتات و الطيور خلالها.).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق